كتاب المشهد في جميع تجلياته: مؤلّف جماعي بإشراف الدكتور رياض بن رجب
"يواصل قطار الحياة مسيرته حاملا عديد المسافرين نحو أماكن محدّدة، وينفرد كل مسافر بأسلوب يترك عبره آثار مساره، من أفراح وآلام"، كذا هو الإنسان كما قدّمه أستاذ علم النفس بالجامعة التونسيّة رياض بن رجب في تقديمه لكتاب "المشهد في جميع تجلياته"، الذي نشره مؤخّرا المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون"بيت الحكمة" باللغة الفرنسيّة.
يؤكّد صاحب المؤلّفات العديدة حول الإيتيقا في علم النفس، وعلم النفس المرضي، والأنتروبولوجيا أهمية هذا العمل الجماعي حول تجليات المشهد لأنّ الركح يستوجب مقاربات تحليليّة وسوسيولوجيّة، وأنتروبولوجيّة وفنيّة، أي من سياقات معرفيّة متنوّعة تتداخل فيها نتائج علم النفس التحليلي وبحوث علماء الاجتماع، إلى جانب خيال الأدباء والفنانين من مسرحيين وسينمائيين.
وفي هذا السياق تتنزّل مضامين الكتاب باعتبارها دراسات مختصّة لخبراء منحدرين من سياقات عربيّة وعالميّة متنوّعة تشخّص هويّة الفعل التعبيري ورموزه ووسائله المختلفة، إذ تشدّد "الباحثة في الأدب والسينما، الجامعيّة أسماء أحمدي " في دراسة بعنوان " مشهد الخيال" على العلاقة العضويّة بين المشهد والأبعاد الحميميّة "فالمشهد الخيالي استثنائيّ وحميميّ بامتياز.. يبحث باطراد عن فضاء يحتويه ويجسّد نفسه داخله". بل يذهب خبراء علم النفس التحليلي في بحوث واردة في المؤلّف حول الحلم والفن الخلاّب، وسحر الركح إلى ما هو أقصى، موضّحين أهميّة تفريغ المشاعر والانفعالات، وتتنزّل في هذا المجال دراسة لأستاذ علم النفس العيادي والمرضي بجامعة نيس الفرنسيّة "جون ميشال فيفاس" عنوانها "جسد الممثّل بين الشعور والإدراك"، يبرز فيها كثافة الحالات الشعوريّة لحركة واحدة يؤديها أي ممثّل فوق الركح، فهو ليس مجرّد دمية متحرّكة تشتغل وفقا لمعادلات وخطة ثابتة، إنّه كينونة تحكمها بنية مشاعر تتداخل فيها أخطبوطيا عناصر التراجيديا والكوميديا ، بما في ذلك حالات يأتيها دون أن يدركها، لذلك استند الكاتب في تحليله إلى المدرسة الفرويديّة، وتحديدا الدوافع اللاشعوريّة بوصفها محدّدة لكثير من الإبداعات ممّا يفسّر استحالة الفصل بين الفعل الإبداعي والدوافع الشعوريّة، وغالبا ما تكون اللاشعوريّة المقيمة في الأعماق الدفينة إن استعرنا عبارة الفيلسوف شوبنهاور. فمن منا يمتلك مشروعيّة نفي سلطة الغياهب على أفعالنا؟ ألم تكتب روائع الشعر بأنامل الجمال؟ ألم يتحوّل عديد المفكرين الصارمين إلى كتاب رواية ومبدعين حين وقعوا في فخاخ العواطف والانفعالات وإن كانت أحاديّة الجانب؟ ألا يمكن لعشيقة افتراضيّة أن تكون منطلقا لروائع فنيّة خالدة؟ قد تجيب على هذه الأسئلة النائمة في عتمة الكينونة مضامين الكتاب، موضّحة علاقة الأشكال التعبيريّة من رموز ومفردات لغويّة مختلفة بأبعادنا النفسيّة والليبيديّة (اليبيدو) وهواجسنا المتحقّقة والمكبوتة، وعليه تكشف بحوث الكتاب الدوافع الجينيّة والسيكولوجيّة للوسائط التعبيريّة، بما في ذلك تعبيريّة الجسد القادرة أحيانا على اختزال المعنى العصي على كل المفردات، فما تعجز الكلمات على تسميته تبوح به زفرات الجسد الناطق عبر صمته.
واهتمّت المقاربات السوسيولوجيّة والأنتروبولوجيّة الواردة في كتاب "المشهد في جميع تجلياته" بالخطاب الفني بوصفه بنية تتقاطع فيها حاضنة اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، لذلك يمكن للنص الإبداعي أن يكون مادّة للتشريح السياسي والاقتصادي والليبيدي إن تسلّحنا لحظة التفاعل معه بالأدوات المعرفيّة المطلوبة.
- اكتب تعليق
- تعليق