عبــد النـاصر في بنزرت فــي الاحتفـال بــذكــرى الجـلاء
يوم 13 ديسمبر 1963 لم يكن يوما عاديا في تاريخ تونس. كان يوما شتويا باردا من أيام ديسمبر، وكانت البلاد على موعد مع حدث هام: الاحتفال بالذكرى الأولى لجلاء آخر جندي أجنبي عن بنزرت، أسابيع قليلة بعد 15 أكتوبر يوم الجلاء. ازدانت المدينة بالأعلام والزهور لتستقبل جحافل التونسيين القادمين من كامل أنحاء البلاد ليحتفلوا بالنصر الكبير الذي أعاد لتونس سيادتها الترابية بالكامل. لم يشأ الحبيب بورقيبة، مهندس هذا النصر، أن يكون الاحتفال بهذا الحدث التاريخي العظيم محليّا، وإنّما رغب في إعطائه طابعا إقليميا بدعوة رؤساء عرب وعلى رأسهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حامل لواء فكرة الوحدة العربية، الذي سجّلّ بقدومه أوّل زيارة له لتونس، وهو في حدّ ذاته حدث تاريخي، إذا ما تذكّرنا الفتور الذي طالما وصم علاقته ببورقيبة طيلة الفترة السابقة. وبالتالي، كان يُراد لهذه الزيارة أن تفتح عهدا جديدا على مستوى العلاقة بين الزعيمين.. تقارب لم يدم سوى سنتين قبل أن تنقطع العلاقات مرّة أخرى بعد خطاب أريحا في 1965.
دعـــــا بورقيبة أيضا إلى احتفالات الجلاء الرئيس الجزائري أحمد بن بلة. وكانت الجــــزائر خــــارجة للتوّ من حقبة استعمــارية طويلة بعد كفاح بطولي دام لسنوات خاضته جبهة التحرير الجزائرية ضدّ الجيش الفرنسي، خلّف مئات الآلاف من الشهداء الجزائريين. وكان كذلك من بين المدعوين وليّ عهد ليبيا، الأمير حسن الرضا وممثّل ملك المغرب الحسن الثاني، السيد عبد الهادي أبو طالب.
كان قدوم جمال عبد الناصر إلى بنزرت الحدث الأبرز خلال الاحتفالية بعيد الجلاء لما في ذلك من رمزية. فمنذ أكتوبر 1958، كانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين البلدين بقرار من بورقيبة ردّا على موقف مصر المساند لغريمه، صالح بن يوسف الذي كان آنذاك لاجئا في القاهرة بعد أن عارض بشدّة اتفاقية الاستقلال الذي اعتبره منقوصا وأطلق حركة معارضة مسلّحة ضدّ النظام التونسي. ورغم مطالبة بورقيبة عبد الناصر بالتخلّي عن مؤازرة بن يوسف، فإنّ هذا الأخير أصرّ على مواصلة حمايته ودعمه. وذهب بورقيبة إلى حدّ اتهام الزعيم المصري بالتخطيط لاغتياله في 1958 عبر جهاز المخابرات المصرية. كما لم يستسغ الرئيس التونسي الحملات التي كانت تطلقها ضده إذاعة «صوت العرب» من القاهرة والجرائد المصرية والعربية بأمر من عبد الناصر والتي كانت تنعته بالعميل للغرب وتشكّك في انتمائه إلى الوطن العربي، خاصة وأنّه كان ضدّ فكرة الوحدة العربية، وكان يجاهر بذلك، مفضّلا دعم مفهوم «الأمة التونسية» و «الوحدة المغاربية».
تأتي إذا زيارة الرئيس المصري على خلفية سنوات من الجفاء والقطيعة، لتكون مبادرة حسن نية من الطرفين التونسي والمصري لتجاوز الخلافات القديمة.
ولم يدّخر بورقيبة أيّ جهد ليبرز حفاوته بضيفه المبجّل، منذ استقباله في مطار العوينة، وسط هتافات الجماهير الغفيرة التي جاءت لتحيته، إلى حدود مغادرته التراب التونسي بعد أن شارك في مختلف فعاليات الاحتفال بعيد الجلاء. وكان بورقيبة يحرص كل الوقت على أن يكون عبد الناصر على يمينه ولا ينفكّ يربت على كتفه ويبادله الابتسامات، ويقدّمه للجماهير، في إشارة إلى أنّ عهد الجفاء قد ولّى.
حظيت الزيارة بتغطية هامّة سواء في الصحف التونسية أو المصرية، التي أثنت على هذا التقارب بين الرئيسين ونقلت بالتفاصيل وقائع الاحتفال بعيد الجلاء في بنزرت، ليكون احتفالا مزدوجـــا: استعـــادة قاعدة بنزرت مـــن المستعمر الفرنسي، وعـــودة العلاقات التونسية المصرية.
جماهير حاشدة في الاستقبال
في صباح يوم 13 ديسمبر، دوّت في سماء بنزرت 31 طلقة مدفعية لتعلن وصول الركب الرئاسي إلى الميناء. كان البطّاح المقلّ للرؤساء، بورقيبة وعبد الناصر وبن بلة وولّي عهد ليبيا وممثّل الحسن الثاني، يقترب شيئا فشيئا محاطا بنحو 30 زورقا، في موكب مهيب، وسط هتافات المواطنين الذي كانوا ينتظرون منذ ساعات حلولهم بالمدينة ولم تثنهم عن ذلك الأمطار المتهاطلة ولا برد الشتاء القارص.
نزل الرؤساء ليركبوا السيارة الرئاسية متّجهين نحو مقر ولاية بنزرت. ثم من هناك توجّهوا نحو مقبرة الشهداء في بنزرت، حيث تلوا الفاتحة على أرواح الشهداء قبل أن يعودوا من جديد إلى مقر الولاية.
عمد بورقيبة إلى أن يتوسّط الرئيسين جمال عبد الناصر وأحمد بن بلة داخل السيارة الرئاسية على أن يكون أعلى منهما قليلا نظرا إلى قصر قامته. هكذا تقدّمت السيارة الرئاسية المكشوفة، شاقّة طريقها بصعوبة وسط الأمواج البشرية والهتافات التي لا تخبو لتصل إلى ساحة الجلاء حيث رُكّزت المنصة التي سيلقي منها الرؤساء خطبهم. وقد قدّرت الصحف التونسية عدد الحاضرين في الساحة بـ 300 ألف، أما من بقوا خارجها فقد وصل عددهم إلى نصف المليون.
وقام بورقيبة وعبد الناصر وبن بلّة بتقليد أوسمة الجلاء لمجموعة من الجنود الذين شاركوا في معركة الجلاء وذلك قبل انطلاق الاستعراض العسكري.
رؤى مختلفة للوحدة العربية
لم ينفك بورقيبة سواء خـــلال مرور الموكب الرئاسي بشوارع بنزرت أو من المنصّة، يبدي مظاهر الحفاوة والترحيب بضيوفه، وخاصّة الرئيس المصري ليظهر للجماهير الغفيرة التي كانت تنادي: «يحيا عبد الناصر» و«فلسطين يا جمال»، أنّ العلاقات بين الرئيسين تجاوزت مرحلة الفتور وأنّ عهدا جديدا قد بدأ. وليدللّ على ذلك، احتفى في خطابه الافتتاحي، بشكل خاصّ بعبد الناصر قائلا إنّ حضوره في هذه الاحتفالية «شيء له وزنه وقيمته لأنّ به نستطيع أن نقيم الدليل على أنّ السحب العابرة والغيوم التي خيّمت على سماء علائقنا الأخوية حينا من الدهر لم تكن مبنية إلاّ على سوء تفاهم وسوء التفاهم هـــذا سرعــــان ما تقضي عليه صراحة المواقف وإقرار الأمور في نصابها الطبيعي». وذهب بورقيبة إلى أبعد من ذلك مقرّا بعدم رفضه لفكرة الوحدة العربية العزيزة جدّا على قلب ضيفه، وهو الذي لم يُفوّت فرصة في السابق ليعلن عدم قبوله بها، حيث أعلن في خطابه أنّ عبد الناصر استأذنه ليطرح هذه الفكرة خلال الخطاب الذي سيلقيه في الاحتفال بعيد الجلاء، فلم يبد أي اعتراض، بل ذهب إلى القول: «نحن كلّنا عرب، كلّنا في تونس نعتبر أنفسنا جزءا من الأمة العربية».
لكنـّــه استـــدرك بعد ذلك، ليبدي رؤيته الشخصية لمفهوم الوحدة العربية والتمشّي الذي ينبغي اعتماده لتحقيقها، مبرزا الاختلاف بين رؤيته ورؤية عبد الناصر، وبذلك استطاع بذكاء كبير وبحنكة سياسية أن يقرّبه منه، دون أن ينضوي تحــــت جنـــاحــيه. وقد ذكّر في خــطابه في هـــذا الصــدد، بأنّ الـــوحـــدة لابدّ أن تكون «نتيجة عمل طويل جبّار يكـــون هدفه تحطيم الحواجز التي أقامتها بين مختلف شعوبنا القرون»، مضيفا أنّه لابدّ من «مراعاة ظروفنا وملابساتنا التي هي نتيجة تاريخ طويل ونتيجـــة ما صنعته الجغرافيا التي فرّقت بين أقطارنا ونتيجة موقعنا في هذه الرقعة من الأرض». وبالتالي، حاول بورقيبة أن ينسّب فكرة الوحدة العربية وأن يؤكّـــد أنّ تجسيدها هو تحدّ حقيقي يحتاج إلى جهد كبير، داعيا إلى التحلّي «بالواقعية»، في إشارة إلى طـوبـاوية عبد الناصر، ومركـــزّا على أنّه لا يكفـــي «أننـــا نتكلـــم العربية» للقــــول إنــّه «انتهى الأمر وجاءت الوحــدة تجـــري».
وليُمعن في الاستحــــواذ على فكـــرة الوحدة العربية ليصبغها برؤيته الشخصية، شدّد بورقيبة كثيرا على ضــــرورة البــدء بالوحدة المغاربية مع الأشقـــاء الجـــزائريين، والمغاربة والليبيين، قبل الانصهار في كيان أوسع يضمّ العالم العربي برمّته. ولم يفته الردّ في ذات الخــــطاب على الاتّهـــامات التي وجهها له مناصرو العروبة عند طرح هذه الفكرة، حيث قال «إنّ بعض الذين أساؤوا بنّا الظن وقالوا إنّ هذا إلا مناورة للتخلّص من الوحدة العربية أو للابتعاد عنها. لا أبدا! إنّنا لم نسع في هذا إلا ليكون مرحلة لابدّ لنا من قطعها وليكون بمثابة خطوة نخطوها في سبيل الوصـــول إلى ما هو أعمّ وأشمل».
هكذا وضع بورقيبة الأمور في نصابها، فلم يكن لخطاب عبد الناصر الذي جاء بعده مباشرة التأثير المرجوّ.
أثنى الرئيس المصري في البداية في خطابه على نضال الشعب التونسي بقيادة الحبيب بورقيبة للتخلّص من براثن الاستعمار، مؤكدا مساندة الشعب المصري لنظيره التونسي أثناء كفاحه، ليخلُص إلى أنّ النصر الذي حقّقته تونس إنّما هو نصر لكافة الأمة العربية، حيث قال: «وإني أقول لكم إنّي أشعر أنّ الوحدة العربية قائمة حقّا بين الشعوب العربية، فحينما كنتم هنا تتعرّضون لرصاص اللاستعمار كان إخوتكم في مصر وفي كل بلد عربي يهبّون لتأييدكم وهم يشعرون أنّ هذا الرصاص قد صُوّب إلى قلوبهم وإلى أجسامهم وهذه هي الوحدة العربية».
هدنة قصيرة
زيارة عبد الناصر إلى تونس وإن لم تدم سوى 24 ساعة، كان له خلالها محادثات مع بورقيبة وبن بلّة، اعتبرت حدثا تاريخيا غير مسبوق، حيث علّقت الصحافة المصرية عليها بأنّها «خطوة واسعة تقطعها شعوب شمال إفريقيا العربية نحو المستقبل». كما جاء في جريدة «الأخبار» المصرية بتاريخ 19 ديسبمبر 1963. وكان يُنتظر منها أن تُنهي وإلى الأبد الخلافات بين عبد الناصر و بورقيبة. إلاّ أنّ فترة التوافق لم تدم سوى سنتين، ليعود الخلاف بين الرئيسين على أشدّه بعد زيارة بورقيبة للشرق الأوسط وخطابه الشهير في أريحا في 1965 الذي دعا فيه العرب والفلسطنيين إلى القبول بحلّ التقسيم. وتذكر العديد من المصادر أنّ عبد الناصر شجّع بورقيبة في ذلك الوقت على أن يجاهر برأيه في القضية الفلسطينة المخالف للرأي السائد، ليُجيّش بعد ذلك ضدّه الجماهير والصحافة العربية.. موقف اعتبره الزعيم التونسي معاديا ومؤذنا بفتح صفحة جديدة من الصراع بينهما. وقد جنّد لها بورقيبة من جانبه الصحافة التونسية وعمل على كسب مساندة المعارضين لعبد الناصر وخاصة الإخوان المسلمين، حيث ندّد بإعدام عبد الناصر الجماعة في ذلك الوقت، سيّد قطب، رغم كرهه المعلن للإخوان المسلمين ولم تعد العلاقة بين الرجلين إلاّ عند اندلاع حرب الأيّام الستّة بين العرب وإسرائيل في جوان 1967، وظلّت العلاقات التونسية المصرية فاترة إلى حين وفــاة جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970.
حنان الأندلسي
- اكتب تعليق
- تعليق