ورقات من كتاب »أحمد بن صـالح وزمــانـه« لسـالـم المنــصـوري
يصدر هذه الأيّام عن دار «نرفــــانا» للنشر كتاب بعنوان «أحمد بن صالح وزمانه» من تأليف الكاتب والوالي السابق سالم المنصوري ومن تقديم الأستاذ الشاذلي القليبي.
ويتناول هذا الكتاب الذي يقع في 553 صفحة سيرة نقابي وسياسي «ملأ الدنيا وشغل الناس» وذلك بداية من نشأته إلى حين عودته على مرّتين إلى تونس بعد فراره من السجن على إثر محاكمته في بداية السبعينات في قضيّة التعاضد. ويتضمّن المؤلّٓٓف أربعة أقسام تتناول حياة الرجل ونشاطه وتوجّهاته أمينا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل ووزيرا في حكومة بورقيبة تقلّد العديد من المناصب . واختار سالم المنصوري لهذه الأقسام العناوين التالية:
«من زمن المِحنة» و«الزمن النقابي» و«زمن الاستقلال» و«زمن الجمهورية». وتتداخل في الكتاب سيرة أحمد بن صالح مع سيرة تونس على امتداد أكثر من سبعة عقود، ممّا يجعل منه مرجعا مهمّا من مراجع تاريخ البلاد المعاصر. يزخر الكتاب بمعلومات وحقائق ينفرد صاحبه بنشرها، لعلّه استقاها مباشرة من أحمد بن صالح ومن مصادر اجتهد في رفــــع الغبار عنها. من «أحمد بن صالح وزمانه» نعرض هذين المقتطفين اللذين وردا في مفتتحه:
ورقــــات مـن كتاب
لقاء بورڤيبة وبن صالح الأخير
قصر الجمهورية، قرطاج ، يوم الإثنين 3 نوفمبر 1969.
اللجنة الدستورية ترفع إلى الرئيس الحبيب بورقيبة نتيجة الانتخابات التي أعيد بموجبها رئيسا للبلاد.
اجتاز أحمد بن صالح باب القصر صحبة أحمد نورالدين وزير التجهيز للمساهمة في تقديم التهاني بهذه المناسبة للرئيس بورقيبة.
وعند الوصول إلى البهو ابتعد الحاضرون من وزراء وكبار المسؤولين تجنّبا لقاءه ولم يتقدّم لمصافحته إِلَّا الشاذلي القليبي وزير الثقافة وصديق الطفولة منذ الدراسة بالمعهد الصّادقي في الثلاثينات. وعندما أبلغه مسؤول المراسم أنّ الرئيس ينتظره في مكتبه.
فاستقبله بنظّارات سوداء وكان لديــه الباهي الأدغـــم قـــائلا: لا تنزعج ممّا حدث فهي أمور واردة في الميدان السياسي، سبقك إليها آخرون. فردّ بن صالح : لكن ليس إلى درجة القبول بتجنيد أعوان لحمل أكياس من الملصّقات معدّة بالبنك الزراعي وتعليقها على جدران ساحة الحكومة بالقصبة رسمت عليها شعارات منادية بإسقاط بن صالح ودفعه إلى المشنقة فلاحظ الأدغم محاولا التهدئة: إنّ السيد أحمد يعتقد أنّ ما حصل هو نتيجة مكيدة مدبّرة ضدّه. فاغتاظ الرئيس من هذا التعليق وانتهى اللقاء عند هذا الحدّ.
ولمّا عـــاد بن صالـــح إلى البهــــو أسرع المدعووّون إلى مصافحتــه بحرارة ظَنّا بأنّ الأزمة انقشعت.
والتحـق الرئيـس بالجمع واستمع إلى تقرير اللجنة وأعلم الجميع أنّ التشكيلة الوزاريّة ستشتمل على وزير أوّل ووزراء عوضا عـن التسمية القــديمة (كتّاب دولة). ورجـا مـن رئيس المجلس أن يتولّى لأسباب صحيّة أداء اليمـين الدستورية في قصر قرطاج بدلا عن مقرّ مجلس الأمّة بباردو.
ولم يحصل أن التقى الرجلان ، بورقيبة وبن صالح ، بعد ذلك اليوم الذي كان بمثابة لقاء الوداع. وفِي طريق العودة أشــــار بن صالح لمرافقه إلى قوّة إحساسه بأنّ آلة القمع ضدّه قد تحرّكت وهي سائرة به إلى حدود بعيدة.
إقالة أحمد بن صالح من الحكومة
جاء في جريدة العمل يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 1969 أنّ الديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري اجتمع يوم الأحد 9 نوفمبر بإشراف أمينه العام الباهي الأدغم ونظر في قضية أحمد بن صالح وأعلن في بلاغه ما يلي: «حيث ثبت التناقض بين وجهة نظر الحزب والسيد أحمد بن صالح في محتوى الاختيارات الأساسية وطرق تنفيذها، وحرصا على الوضوح والمحافظة على الانسجام في صفوف المناضلين وعملا بمقتضيات النظام الداخلي المتعلّقة بالمخالفات التي تمسّ بمبادئ الحزب، قرّر الديوان السياسي رفت السيد أحمد بن صالح من الحزب الاشتراكي الدستوري».
وفي آليوم الموالي ، الإثنين 10 نوفمبر، وعند انعقاد الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمّة المنتخب، تمّ سحب صفة النائب من بن صالح عملا بالفصل 109 من القانون الانتخابي الذي ينصّ على فقدان الصفة آليا بمجرّد طرد النائب من الحزب أو الجهة التي رشّحته للانتخابات. وتحوّل بعدها النوّاب إلى قصر قرطاج استجابة لرغبة الرئيس لمواصلة الجلسة الافتتاحية التي سيؤدّي فيها اليمين الدستورية.
وتعرّض الرئيس في كلمته لبن صالح قائلا: «...فأنتم تعلمون أنّ أحمد بن صالح قد سبق له أن رُفت من الكتابة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل ، وعلى إثر هذا الرفت كان من الممكن أن يضيع . وأنّ من طبعي لا أحبّ أن يضيع أيٌ من التونسيين خصوصا إذا كان يعجبني فيه ما يبدو عليه من الذكاء والألمعية والنجابة. فأخذت على عاتقي الأخذ بيده وأدخلته في الحكومة...» وبعد هذا التنويه الواضح بخصال الرجل في قالب الخطاب العتابي كشف بورقيبة عـــن تــدخّل قــوى أجنبية في شؤون تونس الداخلية سامحة لنفسها بتقييم اختيارات البلاد وطرق إنجازها فقال: «... وأصبح السفراء والصحافيون الأجانب والملاحظون السياسيون على علم بمشاكلنا منهم من عبّر عن هذا السلوك الشاذّ بأنّه سير بتونس نحو الهاوية، بل ركض نحو الهاوية ، وهذا الحكم قد صدر حتّى من الصحافة اليساريّة . فما هذا العبث؟ ففي الوقت الذي كنت أحسب فيه وأنا أعاني آلام الكبد. ونحسب جميعا أنّنا سائرون في طريق رفع المستوى العام وتوفير الإنتاج إذا بنا نُصدم بهذا الحكم القاسي على مسيرتنا».
وفِي هذا إشارة مباشرة إلى التقارير الواردة على الرئاسة من بعض البعثات الدبلوماسية الغربية وبعض الأجهزة المخابراتية والتي تقدّم صورا قاتمة حول المسيرة التنموية في تونس.
ونذكر من أهـمّ تلك التدخّلات تلكم التي قـام بها السفير الفرنسي جان سوفانيارق (Jean Sauvagnargues) في محطّة أولى بعد تأميم الأراضي الفلاحية التي كانت بيد المعمِّرين الفرنسيين (12 ماي 1964) والذي عُدّ في رأيه مــن سيّئـــات بن صالح ثمّ في محطّة ثانية سنة 1968 بعد الملاسنة العنيفة التي حصلت بين السفير والوزير في مكتبه بوزارة الاقتصاد والماليّة بحضور الطيّب السحباني الكاتب العام لوزارة الخارجية والتي نتج عنها التقرير الأسود الذي بعث به السفير إلى الرئيس الذي أطّلع بن صالح على فحواه والذي أجاب أنّ النصّ اعتمد على كثير من المغالطات والأكاذيب مستندا إلى أحاديث وأراجيف الصالونات.
وتحاشى بورقيبة في هذه المناسبة الإشارة إلى الأصداء الإيجابية الواردة من وراء البحار حول مسيرة التنمية في تونس نذكر لاحقا أمثلة عديدة منها، وواصل خطابه قائلا: «... وإذا بلغ التلاعب حدًّا لا يجوز السكوت عنده ، دعونا أعضاء الديوان السياسي والحكومة للاجتماع وأصدر مجلس الجمهورية ذلك القرار الذي تعلمونه.»
وختم كلمته قبل أداء القسم الدستوري قائلا :... وحزبنا هذا طرأت عليه في السابق عدّة أزمات وخرج منها كلّها دائما منتصرا.
وسيخرج من هذه الأزمة بحول الله وبتكتّل الأمّة رافع الرأس بالغا ما يرجوه من الخير. وقصارنا أن ندعو لهذا السيّد بالتوفيق وبالرجوع إلى الجادّة ومعاذ الله أن يتمنّى أحدنا الشرّ لأيّ مواطن تونسي مهما تكون هويّته وسجاياه».
وفِي إفصاحه عن دعوته بالتوفيق لبن صالح وعن الأمل في رجوعه إلى الجادّة بعد التنويه السابق بخصاله وقيمة قدراته تعبير جليّ عن تأسّف بورقيبة لخروج بن صالح من موقع المسؤولية وهو ما عمَّق قطعا أحقاد خصومه والمجموعات المناوئة له وزاد في مخاوفهم من عودته ممّا جعلهم يسرعون في خطّتهم ويُحكمون نسيج حيلهم للحيلولة دون ذلك.
وبذلك يكون أحمد بن صالح قد غادر كلّ المناصب الرسميّة وهو في الثالثة والأربعين من عمـــره وتونس حديثة العهد بالاستقلال الذي تحصّلت عليه من ثلاث عشـــرة سنة لا أكثر!
هذه التغييرات التي أدّت إلى إبعاد بن صالح من مواقع القيادة وما سيتبعها من أحداث أخرى كوضعه في مرحلة أولى رهن الإقامة الجبرية في بيته ثمّ الزجّ به بعد أشهر في السجن ومحاكمته في إطار قانوني جائر مع عدد ن المسؤولين جاءت نتيجة لما طرأ في صائفة 1969 عند اندلاع الأزمة السياسية التي اتّخذت من مشروع الإصلاح الزراعي ذريعة للنسف الكامل للتوجّهات العامّة التي تميّزت بها التنمية في البلاد منذ بداية الستينــات في إطار الاختيارات الــرسميّة للحــزب الدستوري الذي أقرّ الاتجاه الاشتراكي منذ مؤتمره ببنزرت (أكتوبر 1964) وشرعت مؤسّسات الدولة إذ ذاك في تطبيقها ضمن مخطّطات تنمية متواصلة عملت على تعايش القطاعات الثلاثة : الخاصّ والعمومي والتعاضدي.
- اكتب تعليق
- تعليق
تحياتي لك الاخ الوطني الغيور سالم المنصوري وشكرا على هذا الانجاز