السفير محمد إبراهيم الحصايري يشارك في مؤتمر "التنوع الإثني والثقافي بالوطن العربي، في مستقبل الأمة ومنزلتها الإنسانية"
بالتعاون بين مركز جامعة الدول العربية بتونس وبين مكتبة الإسكندرية، انعقد يومي الاثنين والثلاثاء 26 و27 نوفمبر 2018 في مقر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)مؤتمر "التنوع الإثني والثقافي بالوطن العربي، في مستقبل الأمّة ومنزلتها الإنسانية".
وقد شارك السفير السابق ومستشار هيئة تحرير مجلة "ليدرز" العربية، محمد إبراهيم الحصايري في الندوة بمداخلة تحت عنوان "من إشكاليات التنوع في العالم العربي:مشاهدات وشهادة سفير سابق".
وفي مستهل المداخلة ذَكَرَ السفير محمد إبراهيم الحصايري أنه تنقل، خلال فترة عمله الدبلوماسي التي امتدت اثنتين وثلاثين سنة، على التوالي، من المملكة المغربية، إلى الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ثم الى الجمهورية العربية السورية، ثم إلى دولة الكويت، كما زار، بصفته أكثر من مرة مديرا عاما للشؤون العربية والإسلامية بوزارة الشؤون الخارجية، معظم الدول العربية مغربا ومشرقا وخليجا.
وقال إنه أدرك، من خلال عمله في بلدان الاعتماد وزياراته إلى غيرها من البلدان العربية معنى أن يُسَمَّى العالم العربي عالما، فهو عالم بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنه إلى جانب تنوع جغرافيته ومناخاته، يضمّ بين جوانحه من التنوع العرقي والدينيوالمذهبي واللغوي والثقافي والحضاري ما يشكل فعلا عالما غنيا بكل الألوان وكل الاشكال...
وأكد أنه كان وما يزال يرى في هذا التنوع مصدر ثراء وعامل قوة للبلدان العربية وللعالم العربي... غير أن ما تشهده الساحة العربية حاليا من اضطراب وفوضى في العديد من أرجائها، يدل على أن العالم العربي لم يستطع، بكل أسف، أن يحسن توظيف تنوعه وأن يستفيد من مزاياه، فإذا به ينحرف ويتحول، لأسباب متعددة ومتداخلة، إلى مصدر فاقة وعامل ضعف، ويصبح خطرا يفتك بعدد من بلدانه، ويتربص شرا بعدد آخر منها...
وقبل أن يتحدث عن أسباب هذا الانحراف، لاحظ أن جميع البلدان العربية التي عمل فيها كانت، خلال فترة عمله بها، تنعم بالأمن والاستقرار، وإن لم تكن تخلو، بين الفينة والفينة، من بعض الحراك السياسي أو المواجهات الاجتماعية التي لم تكن تخرج عن السيطرة.
وقد تطرق بعد ذلك إلى بعض مشاهداته في هذه البلدان، مما يرى أنه ساعد، ولو مرحليا وبنسب متفاوتة من النجاح على إدارة التنوع فيها، وحتى لا يطيل الحديث عن هذه المشاهدات التي نبّه إلى أنها مشاهدات انطباعية ذاتية، تبقى قابلة للنقاش، فإنه اكتفى بما أعتبره المشاهدة الأعمق تأثيرا في نفسه وفي ذاكرته في كل واحد من البلدان الأربعة:
1/ في المملكة المغربية (صيف 1984/ صيف 1990): مؤسسة إمارة المؤمنين
بعد الإشارة إلى أن المغرب، مثلما يعلم الجميع، بلد متعدد الأعراق والثقافات، أعرب عن اعتقاده أن جانبا كبيرا من الفضل في التعايش بين مكوّناته المتعدّدة والمتنوّعة العربية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، وذات الروافد الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، إنما يعود، فيما يعود إليه، الى ما يصطلح عليه بـ"مؤسسة إمارة المؤمنين" التي سمحت وتسمح بتوحيد هذه المكوّنات تحت راية الإيمان.
و"مؤسسة إمارة المؤمنين" كما يقول الأستاذ محمد شقير "مؤسسة قديمة، مرتبطة بالتاريخ القديم للحكم بالمغرب" وهي تجعل من "الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملّة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية"، حسب ما تنص عليه الفقرة الأولى من الفصل الحادي والاربعين (41) من الدستور المغربي.
ولهذه المؤسسة جانبان، أحدهما سياسي والآخر ديني، ويرى الخبراء بشؤون المغرب أن هذه المؤسسة تلعب دورا هاما في التصدي للتشدّد بكافة أشكاله، حيث أنها "توفر للملك التحكم في النظام السياسي سواء في مواجهة القوى العلمانية أو الإسلامية"، وذلك من خلال "مجموعة من المؤسسات التي تشرف على تدبير الشأن الديني في البلاد والتي تخضع جميعها له بصفته أميرا للمؤمنين".
وبينما تسهر الأجهزة الأمنية على محاربة الإرهاب الذي ينجم عن التطرف، تسهر هذه المؤسسات على مقاومة أسباب التطرف، من خلال تصور مندمج "يعمل على إصلاح الخطاب الديني، ومراقبة منابر الخطابة في المساجد حتى لا يقع أي انزلاق أو انحراف عن الخطاب الرسمي، والتأكيد على ما يعرف بالثوابت في المغرب وهي: المالكية، الأشعرية، والتصوف السني"…
ويوضّح الملك محمد السادس نفسه دور "مؤسسة إمارة المؤمنين" فيقول عنها في رسالة موجهة إلى المشاركين في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي حول الحوار بين الثقافات والأديان، الذي افتتحت أشغاله يوم الاثنين 10 سبتمبر 2018 بفاس، تحت شعار: "سؤال الغيرية"، إن النموذج المغربي الذي "يشهد على تجذّر التعايش، لاسيما بين المسلمين واليهود في أرضه، وانفتاحه على الديانات الأخرى"، والذي "يستمد مرجعيّته من إمارة المؤمنين ومن المذهب السني المالكي، هو ثمرة جملة من الإصلاحات العميقة، الرامية لتحصين المجتمع المغربي من مخاطر الاستغلال الإيديولوجي للدين، ووقايته من شرور القوى الهدامة".
ويضيف الملك مدقّقا أن هذا التحصين يتم من خلال "تكوين ديني متنوّر متشبّع بقيم الوسطية والاعتدال والتسامح"، كما يتم من خلال المجتمع المغربي الذي "قد أبان عبر التاريخ، عن حس عال من التفاهم المشترك وقبول الآخر، في التزام ثابت، بضرورة الحفاظ على الذاكرة المشتركة للتعايش والتساكن بين أتباع الديانات الثلاث، خاصة خلال الحقبة الأندلسية".
ويستدل الملك على تواصل هذا النهج بأن المملكة "باشرت مشاريع ترميم مقابر اليهود، وتأهيل أحيائهم القديمة في المدن، والمعروفة بالملاّحات، بالإضافة إلى إعادة تهيئة المواقع الدينية اليهودية بصفة عامة"، مضيفا أنه "ليس هناك فرق بالمغرب بين المواطنين المسلمين واليهود، وأن المسيحيين العابرين أو المقيمين في المغرب، كان لهم على الدوام الحق في إقامة شعائرهم الدينية في كنائسهم".
2/ في موريتانيا(صيف 1991/ صيف 1996): الخيمة الجامعة
من المشاهد التي تشد الانتباه في موريتانيا الخيمة التي ما تزال تجاور أفخم المنازل وأكبرها، فللخيمة عند الموريتانيين رمزية خاصة،لأنها كما يرى الموريتانيون"شكلت عبر العصور وطنا وحضنا للجميع، يلجأ إليها الكل رغم التغيرات المناخية والظروف المتباينة والأزمات فتحميهم وتأويهم. ولا يحتاج الداخل إلى الخيمة لمفتاح أو بطاقة دخول فهي فضاء فسيح بلا باب وتستقبل بترحاب كل القادمين إليها منذ أن كانت المسكن الوحيد وحتى اليوم، مشكّلة بذلك مظهرا من مظاهر كرم الموريتانيين وترحيبهم الدائم بالضيف".
والعلاقة الوطيدة بالخيمة بالرغم من المتغيرات التي نجمت عن "التمدن" أو الانتقال الى عالم المدينة، والتحولات التي أفرزتها العولمة، تؤشر إلى تمسك الموريتانيين بنمط عيش كان يجمع بين مختلف مكوناتهم تحت سقف واحد...
وفي هذا السياق يلاحظ الكاتب أمين محمد في مقال يحمل عنوان "الخيمة ارث الموريتانيين ورمز حاضرهم": "لم يكن غريبا أن يختار الموريتانيون تنظيم أهم حدث في تاريخ دولتهم على الإطلاق وهو حفل إعلان استقلال موريتانيا عن مُسْتَعْمِرَتِها السابقة فرنسا (1960) تحت ظلال خيمة مفتوحة رغم توفر بدائل وخيارات أخرى، لكن قادة الدولة الوليدة وقتها رأوا أن الخيمة هي الأكثر رمزية وتعبيرا عن الأصالة وعن الخصوصية الموريتانية".
وبالفعل، فإن الخيمة في موريتانياظلت، بعد استقلالهاوتشكلمدنها الحديثة، جزءا من واقعهاالجديد، بل ربما كانت هي وبعض من العادات والقيم، من أهم ما حمله القادمون من أعماق الريف إلى واجهات الحياة المعاصرة.
ولعله من المفيد التذكير هنا بأن المجتمع في موريتانيا يتألف من مكوّنين كبيرين اثنين يتفرع كل واحد منهما الى قوميات عدة، يعرف الأول بالبيضان والثاني بـ (لَكْوَر) وهو اصطلاح محلي يعتقد الناطقون باللهجة المحلية أنه تعبير ألطف وأكثر لباقة من مصطلح الزنوج.
وقد انصهرت في المكوّن الأول قوميتا العرب والبربر تحت عنوان واحد أصبح يشار إليه بمجتمع البيضان وهم ينطقون بالعربية، وبالأمازيغية في بعض المناطق.
أما المكون الثاني فيتألف من ثلاث قوميات زنجية متمايزة لكل منها لغتها وقيمها وعاداتها وهي: (الفلان،والسونينكه،والولوف)،غير أن الجميع توحدوا تحت راية الإسلام منذ ظهوره في المنطقة فانصهرت معتقداتهم وتشكلت هوياتهم الدينية جميعا وفق المعتقد الأشعري والمذهب المالكي...
وبقدرما ساعدت الخيمة التي كانت، في الماضي، تحتضن لقاءات قيادات مكوّني المجتمع الموريتاني وروافدهما، على خلق حالة من الوئام والانسجام بين العرب والبربر وبين العنصرين معا، وبين المكّون الإثني الزنجي، بقدرما تساعد، اليوم، على تشكيل المشهد السياسي الراهن، وتسهر على أن يتم تغيّر خريطة القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتبدل منظومة القيم التي كانت سائدة حتى وقت قريب، بعيدا عن التوتّر والصدام.
وعلى هذا الأساس يرى بعض الدارسين أن التمازج العربي الإفريقي تحت الخيمة المادية الواحدة، هو نفس التمازج تحت خيمة الوطن المعنوية، وهو بالتالي أساس التنوع في موريتانيا وليس أساس الاختلاف، كما قد يذهب الى ذلك البعض الآخر.
3/ في سوريا (صيف 1997/ صيف 2002):مقولة شعرة معاوية
لوحة لفاتح المدرّس من أجواء الجزيرة السورية
يقول السفير محمد إبراهيم الحصايري إنه، في دمشق التي كانت عاصمة الدولة الأموية، نشأ لديه ارتسام بأن أهلها ما زالوا يسلكون مسلكا مستلهمامن مقولة الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان المشبعة بالذكاء والحكمة، عما سمي فيما بعد بـسياسة "شعرة معاوية".
وللتذكير فإن أعرابيا سأل معاوية بن أبي سفيان: كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة والدنيا تغلي؟ فقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
وسوريا التي كانت على امتداد آلاف السنين من أكثر بقاع الأرض تنوعا مجتمعيا، تضم اليوم الى جانب العرب (غالبية الشعب السوري حيث يشكِّلون اليوم أكثر من 80 % من مجمل المواطنين السوريين)، أقليات عرقية عديدة كالأكراد (يشكلون 15 % تقريبًا من المجتمع السوري أي ما يقرب من ثلاثة ملايين مواطن) والشركس (ما يقرب من مائتي ألف مواطن) والأرمن والتركمان والسريان، والى جانب المسلمين أقليات دينية مختلفة كالمسيحيين بمذاهبهم الاحد عشر واليهود واليزيدين، وإلى جانب السُّنَّة (تتراوح نسبتهم بين 70 و75 % من مجموع السكان) أقليات طائفية متنوعة كالعلويين (تعطي بعض الإحصاءات نسبة 12 % من مجمل السكان، وتعطي أخرى نسبة 20 %) والدروز (بين 1 % و3 %) والإسماعيليين (تتراوح نسبتهم بين 1 و 3 %) والشيعة والمرشديين... وهي، على هذا الأساس، عبارة عن فسيفساء حقيقية من الأعراق والأديان والمذاهب التي أمكن لها التساكن والتعايش مع بعضها البعض إلى حدود اندلاع ما سمي بثورات "الربيع العربي".
وقد كانت سوريا التي تتجاور فيها المساجد والكنائس بل قد تتلاصق، كما في حلب الشهباء ودمشق التي تحتوي على منطقة يطيب لبعض الناس تسميتها "المثلث المقدس" لانها تضم أكبر تجمع في العالم ربما بعد القدس في فلسطين لدور العبادة التابعة للديانات الثلاث في مساحة لا تتجاوز كيلومترا مربعا واحدا، مرشحة لأن تكون نموذجاً للتعايش في الشرق الأوسط كله.
ويبدو أن ذلك هو الذي جعل من سوريا واحة مستقرة في قلب منطقة يستعر فيها الاقتتال الطائفي والعرقي، وهو الذي يفسر خلو تاريخها الحديث،بالرغم من أن بعض التوترات كانت تظهر فيها من حين لأخر،من أي أزماتٍ عرقيةً أو طائفيةً مديدة أو عميقة، وربما لم يكن ذلك ليتحقق لولا التزام الدولة السورية بسياسة "شعرة معاوية" في التعامل مع فسيفساء المجتمع السوري، كما قد يكون اعتماد العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة كمبدأ أساسي من مبادئ حزب البعث السوري قد ساعدها على أن تحافظ على الاستقرار في سوريا في وقت عصفت فيه الفوضى بعدد من البلدان المجاورة.
4/ في الكويت (شتاء 2004/ صيف 2006): الديوانية البرلمان المصغّر
الديوانية... فضاء مميز في الكويت، وهو فضاء جامع لانه فضاء مفتوح، وهو يحتل مكانة خاصة في نفوس الكويتيين منذ ان عرفوه قبل أكثر من قرنين ونصف (260 عاما)، حيث شكلت الديوانية في مختلف مراحل تطورها صورة من صور التكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع، وعاملا رئيسيا في صنع القرار السياسي وتعزيز الوعي الثقافي والديني.
وبحسب البوابة الرسمية لدولة الكويت، فان الديوانية تضطلع بدورهام في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الكويت، بل أصبحت واحدة من مؤسسات المجتمع المدني التي تلعب دورًا بارزًا في الحياة الديمقراطية والنيابية.
وقد ظهر الدور السياسي للديوانية عند تأسيس مجلس الشورى سنة 1921، حينما كان المرشحون يجتمعون فيها لطرح ما يحملونه من أفكار. ثم تعززت أهميتها أثناء تأسيس المجلس التشريعي الأول سنة 1938، كما اضطلعت بدور فاعل أثناء الاستقلال سنة 1961، وانتخابات المجلس التأسيسي، وانتخابات أول مجلس للأمة سنة 1963.
وعلى صعيد آخر، ساهمت الديوانيات بدور اجتماعي وثقافي واعلامي في الكويت، حيث اتخذ من بعضها مقرات للأندية الثقافية والأدبية، ودورا للكتب، ومنها ما كان نواة لتأسيس مقر لأول الأندية الرياضية في الكويت وهو «النادي الأهلي» في عام 1952 وكذلك مقرا طبيا للعلاج قبل بناء المستشفى الأمريكاني.
وتشمل الديوانيات اليوم مختلف طبقات المجتمع وفئاته، وتنعقد فيها المناقشات الخاصة والعامة في أمور الحياة المختلفة.
ويرى السفير محمد إبراهيم الحصايري أن كلا من مؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب والخيمة الجامعة في موريتانيا وسياسة شعرة معاوية في سوريا والديوانية البرلمان المصغر في الكويت تشكّل بعض الاليات التي استخدمتها البلدان العربية التي عمل فيها للحفاظ على وحدتها وتماسك شعوبها والتعايش بين مختلف مكوناتها، ولاحظ أنها آليات متنوعة، ومستقاة من تراث وتقاليد كل بلد، وهو ما يعني أن إدارة التنوع لا تتم وفقا لوصفة نمطية محددة، وإنما يمكن لكل بلد ولكل شعب أن يدير تنوعه وفقا لخصوصيات مجتمعه التاريخية والراهنة، غير أن ذلك قد لا يكون كافيا، وبالفعل فان ما سمي بثورات "الربيع العربي"جاء ليكشف عن أن إدارة التنوع في البلدان العربية قد تكون نجحت في تسكين عوامل التوتر بين مكونات مجتمعاتها لكنها لم تنجح في تحييدها نهائيا... وليس ما شهدناه ونشهده في العديد من البلدان التي اشتعلت فيها الحروب الأهلية الا دليلا على ذلك.
فلقد تحولت الاختلافات في البلدان العربية إلى خلافات تعصف بسلمها الأهلي ونسيجها الاجتماعي، أو هي تهدّده.
وحين نحاول فهم أسباب هذا التحول أو هذا الانحراف، فإننا نلاحظ أنه ناجم عن جملة من العوامل الداخلية والعوامل الخارجية التي يمكن أن نفصلها فيما يلي:
أ) العوامل الداخلية
1/ إن أول هذه العوامل يتمثل في قصور الأنظمة العربية عن التعامل مع تنوع مجتمعاتها تعاملا صحيحا، فهذه الأنظمة لم تُدِرْ الاختلاف بين المكونات القومية والدينية إدارة حكيمة ومسؤولة تعلي مصلحة الوطن فوق مصالح هذه المكونات، وفوق مصالح الفئات السياسية الحاكمة، وربما تكون هذه الأنظمة التي انشغلت، خلال العشريات الأولى من الاستقلالات، ببناء دولها الوطنية، وتركيز أسسها، لم تَرَ في هذا التنوع مصدرا للثراء والإثراء بما ينطوي عليه من تعدد في المهارات وفي أنماط السلوك، بل رأت فيه نوعا من الخطر الذي قد يهدد وحدة أوطانها وقد يخلق توترات ويفجر صراعات بين مكونات شعوبها، قد تؤدي بها إلى التفكك والانقسام.
2/ إن مختلف الأيديولوجيات التي استندت الأنظمة العربية اليها في وضع سياساتها، لم تكن قادرة على ضمان أسباب الديمومة للتعايش الذي أمكن فرضه، بالقوة ولفترة ما، بين مكونات مجتمعاتها المختلفة، لأن هذه السياسات كانت في الغالب ذات طابع إقصائي وحتى إلغائي بشكل من الأشكال، مما جعلها تهمل تلبية مقتضيات هذا التنوع لا سيما على الصعيد السياسي.
فالتيار الذي أخذ بالقومية العربية، (الناصريون في مصر، والبعثيون في سوريا والعراق) كان يطمح إلى وحدة عربية شاملة تلغي الانتماءات الإثنية والثقافية المتنوعة لمكونات الشعوب العربية بل تلغي حتى الانتماء إلى الدول القطرية بالاندماج في الأمة العربية الواحدة.
أما التيار ذو التوجه الديني، فإنه يريد أن يقفز على القطرية والقومية جملة واحدة، وينظّر لإقامة الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة التي تدمج مكونات جميع الأقطار العربية والاسلامية في بوتقتها، دون اعتبار لخصوصيات أو مميزات كل منها، بل أن بعض أتباع هذا التيار ناصبوا العداء لبعض الطوائف الدينية المخالفة لطوائفهم، ولكل من يخالف رؤيتهم للإسلام، بقطع النظر عن كونه مسلما أو غير مسلم، أو عربيا أو غير عربي.
وأما التيار الذي اعتنق التوجه الليبراليفانه اعتبر أن حل جميع مشاغل الوطن العربي هو حل واحد وشامل، وهو يكمن في الديمقراطية.
وأما التيار الذي أخذ بالتوجه اليساري فإنه بدوره آمن بواحدية الحل وشموليته وتصور أنه يكمن الاشتراكية، ولا شيء غيرها.
3/ من أهم الأخطاء المرتكبة في إدارة الاختلاف والتنوع في البلدان العربية،ازدواجية تعامل الأنظمة مع مكونات المجتمع مما يخلق لدى بعضها شعورا بالتهميش والاقصاء، وتدخلها في آليات تشكل النخب، ولجوؤها الى المحاصصة، سواء كانت مكشوفة أو مستترة مما يخلق نوعا من الطائفية السياسية المضرّة بالتعايش السلمي الواعي بين المواطنين، وبالمواطنة، وَ"أَدْوَتَة ُ" (instrumentalisation) التنوّع باستثماره في قضايا سياسية داخلية أو خارجية.
وقد خلقت جملة هذه العوامل في المجتمعات العربية حالة من الهشاشة جعلتها أرضًا خصبة تسمح للعوامل الخارجية باللعب في حديقتها الداخلية.
4/ أن هذه السياسات متضافرة مع تداعيات العولمة وثورة تكنولوجيا المعلومات أفرزت تحديات جديدة، فرضتها المطالب العرقية والقومية على الدولة الوطنية حيث أنها خلقت أجواء من عدم الثقة بين الأغلبية والأقليات التي تطمح إلى الإسهام في تحديد مستقبل الوطن وبناء ثقافته المشتركة وهويته الجامعة المؤطرة بالاعتماد على الاعتراف بقيم الحق والعدل والمساواة والمواطنة الكاملة.
أ) العوامل الخارجية، الإقليمية والدولية
بعيدا عن المنطق التآمري، لا يمكن لعاقل أن يستبعد دور هذه العوامل وأثرها في الحَراكات السياسيةوالاجتماعية التي تشهدها المنطقة.
ويتمثل أهم هذه العوامل فيما يلي:
1/ استغلال القوى الخارجية للتنوع في البلدان العربية لإضعافها خدمة لمصالحها، بمواصلة السيطرة عليها والاستمرار في نهب ثرواتها، وذلك من خلال التلاعب بالعلاقات التي تجمع بين مكوناتها المختلفة، داخليا، ومن خلال التلاعب بعلاقاتها مع دول الجوار، لخلق أوضاع إقليمية غير مستقرة، خارجيا.
2/ تداعيات العولمة التي أفرزت جملة من التحديات الجديدة الناجمة خاصة عن الصراع بين النزعة نحو تنميط الأفكار والقيم والممارسات على الصعيد العالمي وبين النزعة نحو تثبيت الخصوصيات الثقافية والهويات الحضارية والاختلاف على الصعيد المحلي.
3/ انعكاس هذا الصراع بين العالمي وبين المحلي على السياسات الوطنية والإقليمية والدولية، حيث أصبح التنوع أحد أبرز هموم المجتمعات المعاصرة، وهو ما يستوجب منها العمل على سنّ تشريعات تراعي حقوق الأقليات بمختلف أنواعها الاثنية والدينية والثقافية وغيرها تلافيا للتوترات وحفاظاً على تماسك نسيجها الاجتماعي.
4/ اختلاط التحديات العالمية الناجمة عن محاولة العولمة الهيمنة على العالم وتوحيد أنماطه الثقافية، وحصر الحداثة في النموذج الغربي القائم على منطق السوق والليبرالية، بجملة من التحديات الجديدة الناجمة عن انتشار ثقافة الخوف والكراهية، وعن تأجج التمايزات على الأسس الثقافية أو الدينية.
5/ تداعيات المد الأصولي الذي أيقظالعصبيات والأحقاد داخل البلدان العربية وبينها ومع جوارها.
6/ الدور الذي تضطلع به إسرائيل كرأس جسر متقدم في استراتيجية السيطرة على المنطقة وضرورة تقويتها باستمرار عبر إضعاف أعدائها...
كيف السبيل إلى جعل التنوع مصدر ثراء وعامل قوة؟
يقول السفير محمد إبراهيم الحصايري إن ذلك رهين في نظره بما يلي:
1/ الاقتناع بأن التنوع مكون أساسي في تركيبة جميع المجتمعات الانسانية، وان الاختلافنزعة إنسانية غريزية، وهو دليل على ديناميكية المجتمع وحيويته، وبأن التنوع بمختلف اشكاله وأبعاده ملازم للوجود الإنساني، وهو أمر طبيعي لا يخلو منه أي مجتمع بشري في العالم، وسيظل قائما، مهما بلغ من تقدّم اجتماعي وسياسي، ومن تفوّق علمي وحضاري، ومن تطوّر دستوري ومدني.
2/ انطلاقا من الايمان بأن المماثل لا يستطيع أن يقوم بنفس الدور الذي يقوم به المغاير، لا بد من العمل على إرساء إطار سياسييسمح للتنوع الثقافيلا فقط بالتعايش بل بالازدهار والنمو، بما يمكن من خلق ثقافة متميزة، ولكي يتسنى ذلك لا بد من سلوك طريق الديمقراطية، إذ بدون الديمقراطية ومفهوم المواطنة يصعب الحديث عن حقوق الأقليات...
3/ لا بد من بلورة هندسة اجتماعية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التنوع الثقافي في المجتمعات العربية، وذلك من منطلق اعتبار التنوع مصدر غنى، وعامل قوة لا عامل ضعف. ويتطلب ذلك أولا وبالذات الاعتراف بحقوق الأقليات غير المشاركة في الحكم، ولا في انتماء الحكام الديني أو الطائفي أو الجغرافي أو العرقي، والعمل على وقف جميع أشكال التمييز ضدهافي القانون وفى الممارسة، مع اتخاذ ما أمكن من الإجراءات للنهوض بأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...
ومن المهم في هذا الإطار العمل على دسترة نظام الحكم وتركيبة المجتمع، ممّا يساعد على صون حقوق جميع المواطنين في البلاد، بغضّ النّظر عن أصولهم العرقية أو عقائدهم الدينية.
4/ من الضروري في هذا النطاق التمييز بين ما يمكن اعتباره "اختلافاصحّيا" لأنه يتعلق بقضايا فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وبين ما يمكن اعتباره "اختلافا مَرَضِيًّا" لأنه ناجم عن تعصّب ثقافي عرقي، أو ديني طائفي، أو قبلي عشائري، كما ينبغي التنبه إلى خطورة بعض المعالجات المغلوطة، وخاصة منها اللجوء الى أسلوب المحاصصة الذي قد يسكّن بعض أوجاع الأقليات، مؤقتا، ولكنه في الواقع قد يزيد المجتمعات تقسيما، على المدى الطويل. فالمحاصصة شكل من أشكال التدخل الفوقي في تشكّل النخب السياسية، وقد يرى فيها البعض حلاً سياسيًا ناعمًا وعمليًا لتمثيلية المكونات المجتمعية في الدولة، لكنها في الحقيقة مثال واضح على سوء إدارة التنوع، لأنها عملية تقوم على نظرة عامة إلى المجتمع كمجموعة مكونات يجب إرضاؤها بتمكينها من تمثيل في السلطة، متناسب مع أحجامها.
وهذا ما يؤدي الى خلق طائفية سياسية تميز بين المواطنين على أساس انتماءاتهم الطائفية والعرقية وليس على أساس مواطنتهم.
ونفس الملاحظة تنطبق على التوجه نحو تعزيز الحكم المحلى،إرضاء لمطالب بعض الجهات او الأقليات أو الفئات إذ أن من شأن ذلك أن يضعف السلطة المركزية، وقد يؤدي إلى تفكيك أوصال الدولة.
5/ من الضروري أن تسهر الدولة على تأسيس بيئة تحترم الفروقبين أبناء الوطن وتعترف بها، وتعزز التواصل والتجانس المجتمعي، وتتجنب تحول عناصر الاختلاف إلى عناصر انقسام بتحاشي الاحتكاكات وتأزم العلاقات بين مكونات المجتمع الى حد الانحراف إلى مساراتٍ أخرى، قد تصل حد الصدام والاحتراب، وذلك مقابل التزام مكونات المجتمع بأساليب التغيير السلمية، وعدم استخدام العنف المسلّح الذي قد يؤدي الى تفكّك الوطن، وتبرّر التدخّل الخارجي فيه.
6/ إدراك أن البديل عن ذلك، أي الاستمرار في التقوقع وحبس الذات في محيط ضيق من التمييز وحتى العنصرية، وحرمان الأقليات من حقوق المواطنة، بالاستناد إلى شعارات الحفاظ على نقاء النوع، وعلى الثوابت والقيم، ليس من شأنه الا أن يهدد استقرار الدولة السياسيوحتى بقاء الدولة نفسه، خاصة وانه يفتح الباب للتدخل الأجنبي من القوى الإقليمية والدولية.
7/ ترسيخ قيمة المواطنة في شتى مجالات الحياة القانونية والدستورية والتعليمية والاجتماعية... ووضع آليات ديمقراطية تؤمِّن مشاركة المكوِّنات المجتمعية المختلفة في تحديد خيارات الدولة في كل ما يتعلق بحياة المواطنين، ويتطلب هذا الأمر تمحيصًا دقيقًا في آليات العملية الانتخابية بشكل يضمن تمثيلية هذه المكوِّنات في المجالس دون الوقوع في فخ المحاصصة الطائفية أو القومية.
8/ العمل على فك الارتباط بين السياسة والدين حتى لا تقوم الدولة او القوى السياسية بـ"أَدْوَتَةِ" الدين في خدمة أهداف أو مصالح معينة.
ويرى السفير محمد إبراهيم الحصايري أنه إذا ترسخت جملة هذه القناعات عند الطبقات الحاكمة وعند جمهور الناس، أمكن بفضلها توظيف التنوع والاختلاف في خدمة المجتمع.
ومن ميزات هذا التوظيف أنه يفتح الباب أمام التجديد والإضافة، لأنه يفسح المجال للتنافس البناء، ولتلاقح الأفكار، عبر تحاورها في كنف الحرية والديمقراطية.
كما أن من ميزاته المساعدة على إرساء قواعد العيش المشترك، وقبول الاخر المختلف في كنف الوحدة والوئام، والايمان بأن الاختلاف هو سنة الحياة في الجماعات البشرية ولا ينبغي بحال من الاحول أن يؤدي الى الانقسام والتجزئة.
أما عن الاليات التي يمكن أن تساعد على هذا التوظيف فإنها تتمثل أساسا في ترسيخ قيمتي الحوار والتسامح كقيمتين إنسانيتين أساسيتين تدربان الانسان على تقبل الآخر المغاير والمختلف، وتمكنان المجتمع من التأليف بين المتناقضات ومن تجاوز صعوبات بناء فضاء الديمقراطية، في كنف الهدوء والسلم والاستقرار.
وغني عن البيان أن مهمة تكريسهاتين القيمتين ترجع بالأساس إلى المدرسة التي تحتاج إلى إعادة النظر في مناهجهاوبرامجها، حتى تنبذ كل ما يثير التوجس ويبعث على القلق، كما ترجع أيضا الىالمؤسسات الأخرى الإعلامية والشبابية والثقافية التي ينبغي أن تعمل على توظيف المشتركات الوطنية في بناء المجتمع المتحاب المنشود.
ولمؤسسات المجتمع المدني دور أساسي في معاضدة جهود الدولة في هذا النطاق، وفي تدبير التنوع الثقافي، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تعاظم المكانة
التي أصبح يحتلها في ظل هذا العصر الرقمي الذي تعددت فيه وسائل الاعلام والمعرفة وشبكات التواصل الاجتماعي.
واستخلص السفير محمد إبراهيم الحصايري أنه من المهم أن نلاحظ أن ما يحدث الان على الساحة العربية، يشكّل مرحلة مفصلية في تاريخ العالم العربي، لأنه، بالرغم من حجم الأضرار التي ألحقها بعدد من بلدانه وبالعلاقات العربية العربية، ينبهه إلى ضرورة تغيير نظرته، وطريقة إدارته للتنوع في بلداننا، وهو بعبارة أخرى يدعوه، بإلحاح، الى أن يجعل من هذا التنوع نعمة لا نقمة... أرضًا خصبة للتعددية والثراء الفكري والروحي والثقافي، وليس ميدانا للصراع والاقتتال والاحتراب...
واختتم محذّرا من أن يذهب الظن بأحد إلى أن الواقع العربي السيء الراهن حالة مزمنة وغير قابلة للتغيير، فكم من شعوب وأمم عانت أكثر ممّا يعانيه العرب الآن، إذ كانت ضحية للتخلف السياسي والثقافي والاجتماعي وللتمزّق الداخلي وللتآمر الخارجي ولكنها استطاعت، بفضل ما كان يحدوها من رغبة في التغيّر والتغيير، أن تخرج من أوضاعها البائسة وأن تحقق نهوضها ونهضتها./..
- اكتب تعليق
- تعليق