من الكواكبي إلى خاشقجي: دروب الشرق الحُرّ الوَعِرة
«إذا أردتَ أن تُــلغــيَ شعــبــًا ابــدأْ بشَلِّ ذاكـــرتـــه» كورديل هال
1 - يؤكد البعض أنّ مصر هي «أم الدنيا» فلا يرى لغيرها سبقا في الحضارة أو قدما راسخة في المدنيّة. مؤدى ذلك أن مصر كانت منطلقَ النهضة العربية الأولى والمركز الأساس لحيويتها وإشعاعها بينما ظلّت الأقاليم والأقطار الأخرى تبعا لها تسير على هُداها و تقتبس من نورها.
لا يتفق البحث الدقيق مع هذه الرؤية التبسيطية دون أن ينكر ريادة مصر العربية في العصر الحديث؛ ذلك أن تجاهل المساهمات الإقليمية والقُطرية أو التقليل من شأنها عند التأريخ للنهضة العربية لا صلة له بالواقع التاريخي العلمي كما أنّه لم يَعُدْ يُجدي اليوم لإرساء مشروع عربي معاصر بناء على التغيّرات النوعية التي تميّز عصرنا.
2 - لاشكّ في أنّ مصر كانت أوضحَ تعبيرا عن هاجس التقدّم والسعي إلى التحديث إلاّ أن المخاوف من اندثار الهوية والحرص على صَوْن الذات من المخاطر المحدقة بالعالم العربي والإسلامي والعمل على إعادة بناء تلك الذات كانت قاسما مشتركا لدى جميع المتمثّلين للثقافة العربية -الإسلامية في القرن الماضي وما سبقه من عقود.
لقد أدركت كلّ النخب العربية بدرجات تتفاوت حسب موقع كلّ إقليم وخصوصية كلّ قطر الحاجةَ إلى الإصلاح بواجهتيه: من جهة ضرورة استيعاب المتغيرات الحديثة التي يقتضيها الوقت حرصا على المنافع وتجنّبا للمضار ومن جهة أخرى لزوم نقد الفكر الانطوائي الرافض للتحوّلات والمنكر لضرورة إصلاح المؤسّسات الكبرى لإرساء نموذج مجتمعي قادر على إنتاج الفاعلية التاريخية التي افتقدها الشرق.
3 - في «العروة الوثقى» التي أسّسها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده سنة 1884 نقرأ أنّ «الرزايا الأخيرة التّي حلّت بأهم مواقع الشرق جدّدت الروابط وقاربت بين الأقطار المتباعدة المتّصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها فأيقظت أفكار العقلاء وحوّلت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم».
لم يمنع هذا الاتفاق في تشخيص «الفتور العام» للأمّة من الاختلاف في تحديد آليات المعالجة وأولوياتها إذ اعتمد البعض مقولة «المنافع العمومية» بينما تبنّى آخرون أطروحة «التنظيمات» في حين قال فريق ثالث بالاجتهاد انطلاقا من اعتبار أن تدهور حال المسلمين لا علاقة له بالإسلام معتقدا وثقافة وشريعة بل هو نابع من حاجة واقعهم إلى بدائل نوعية في مستوى الفرد والاجتماع والانتظام السياسي.
ما يقدّمه في هذا المضمار رجال الإصلاح في بلاد الشام (سوريا و فلسطين ولبنان وأجزاء من جنوب شرق تركيا) عظيم الأهمية لكونه يعرض ريادة ذلك الإقليم وخصوصيته في تعبيره المبكّر عن هاجس العودة إلى دائرة الفعل التاريخي بتصدّيه إلى الاستبداد بصفته ناقضا للعمران وعدوّا للعلم والحكمة والتقدّم.
4 - ما قدّمه عبد الرحمن الكواكبي ( تـ 1902م) في حياته وآثاره يحمل أكثر من دلالة على ضرورة إعادة الاعتبار لمكوّنات الموجة الأولى للنهوض العربي في الشرق.
بإعادة قراءة نصوص رجال الإصلاح الشَوام نقف على عنصرين يضيئان خصوصية ذلك الإقليم من جهة والطابع المميّز لنضال الكواكبي بالمشروع المناهض للاستبداد. أوّل العنصرين هو تلك السمة الضاربة في القدم والتي تجعل لرجال العلم والمعرفة مكانةً اجتماعية عالية فريدة في نوعها عربيا. أمّا الثاني فهو بروز السلطة «الرمزية – الروحية» التي بها يحتلّ الأشراف ورجال الصلاح والزهد موقعا موازيا لأصحاب سلطة المعرفة في حيوية المجتمع واستقلاليته.
نكتشف قيمة سلطتي المعرفة العلمية والرمزية في التاريخ الثقافي والاجتماعي للشام في أكثـــر من طـــور مــع أكثر من عَلَم من العِزّ بن عبــــد السلام (تـ 660/1261) وصولا إلى البيطار والقاسمي والكواكبي. لقد تمكّن عدد من علماء الشام من التعبير طوال القرون عن مكانتهم الاجتماعية والروحية بما أتاح لهم شرعية الاعتراض على تعسّف الحكام ووُلاّتهم.
نجد نماذج لهذه السلطة التفويضية المقابلة لأصحاب السلطان بضرورة رعاية أحوال الأمّة مثلا في رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ ابن علوان الحموي (تـ937/1530) العالم الزاهد إلى السلطان سليم التي يقول فيها: «ومن المنكرات هجوم الطارقين من العسكر على بيوت الرعيّة والدخول على حريمه والنزول في ديارهم قهرا لأنّ ذلك من مخالفة الكتاب والسنة».
تتكرّر جهود سلطة المعرفة والصلاح في مواجهة عسف التسلط السلطاني مع الشيخ عبد الغني النابلسي(تـ1134/1731) ومع الشيخ أبي المواهب الحنبلي الدمشقي(تــ1187/1773). لا نعدم في الفترات اللاحقة أحداثا تجسّد إباء هذا الإقليم للقهر والذلّ وخصوصيةَ مرجعيته العلمية والاجتماعية وتميّزها الإصلاحي وجرأتها في مناصرة جانب الرعية لـ «كشف الغمّة عن الأمّة» بوسائل شتّى كمناهضة الضرائب الباهظة أو مواجهة الاستبداد بإجازة الهجرة من البلاد.
5 - أهمّ ما تكشفه الريادة الشامية فيما استفادته منها مصر في ذلك العصر يتصل بطبيعة ذلك «الزمن الصلب» بما وفّره، وفق تشخيص «زيجمونت باومان» (Zygmunt Bauman)، من مركز صلب يستقطب ما في الأطراف من قامات وقدرات وتطلّعات متصلة بمجال الحرية الذي كان متاحا للاجئين إلى مصر من الأعيان والنخب من أمثال الكواكبي في بحثهم عن ملاذ آمن وفضاء لحركة الوعي والتعبير الحرّ.
اليوم، وقد خرجنا من ذلك الزمن لنَلِجَ، حسب « باومان»، «الزمنَ السائل» المُفسح الطريقَ لعولمة الاقتصاد والمال والجريمة واستلاب حقوق الإنسان الشخصية والاجتماعية والسياسية، تتغيّر ملابسات التاريخ فتتضاءل أهمية المراكز الصلبة ويطغى العيش باللايقين. عندئذ يبرز المَلمَحٍ الأساس الذي يستوقفنا ونحن نعيش مأساة ثقيلة الدلالات قاتمة الآفاق في معنى استشهاد الصحافي والسياسي المغدور جمال خاشقجي وفيما يوفّره من تشابه، رغم اختلاف الزمن، مع شخصية الكواكبي المفكر والمصلح فيما عاناه هو الآخر من آلام الملاحقة والهجرة ووحشة القهر والاغتيال.
يَشْخَصُ الرجلان بصفتهما شهيدي الحرية لشرق يعمل على الانعتاق في زمنين مختلفين بما حملاه في مسيرتهما الشخصية وبخصائصهما الذاتية المميّزة من تَوجُّسٍ لا يهدأ من مخاطرالاستبداد ومن نضال فكري وتواصلي.
التقاؤهما في الجوهر جعل اختلافَهما ظاهريا: تقرأ لأحدهما فتستحضر الآخر في صميمية موضوعه ودموية نهايته ومُنتهى تَوْقِهِ.
يرى الكواكبي أنّ داء الأمة يكمن في فساد السياسة وإنتاج المستبدّ الذي «يتحكّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنّه الغاصب المتعدّي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدّها عن النطق بالحق والتّداعي لمطالبته». ترك حلب إلى مصر حيث وجد المناخ الحرّ لكنّ غوائل الاستبداد لم تُسعفه فدسّت له السمّ ليلقى حتفه. كان مستشعرا الخطر لذلك فكان يقرّر أنّ مواجهة «طبائع الاستبداد» تُلزم تنبيه حسِّ الأمة بتلك السنن للبحث «في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها».
6 - خاشقجي المؤمن بتأثير الكلمة والضائق ذرعا هو الآخر بأوضاع بلاده التي ظلّت حاضرة في وعيه لكونها تستحقّ الأفضل ولاعتقاده في إمكانية قيام علاقة تفاعل ناجع تربط بين الصحافي والكاتب وبين المسؤولين على حظوظ الدولة. لذلك كان يحلم أن تساهم كتاباته في فتح قنوات حوار مع الحكام بخصوص القضايا الحيوية والحارقة كتصحيح العلاقة بالمثقّفين وعلماء الإصلاح والناشطين والناشطات المطالبين بالحريات واحترام حقوق الإنسان وببلدان الجوار. مُحرّكُه الفكري في ضرورة الديمقراطية للنظام العربي المقبل بدونها على مخاطر هائلة. لم يكن في ذلك مختلفا عن الكواكبي الذي اختصر المعضلة السياسية فيما سمّاه «بَـليّة فَقْدِ الحريّة» وفقدان «المساواة في الحقوق ومحاسبة الحكّام باعتبارهم وُكلاء».
الأهمّ في مغزى هذا التقارب اللاّفت بين الرجلين خاصّة في نهايتهما الفاجعة أنّه كان مُعْـلِمًا مع الكواكبي بغروب الدولة العثمانية أو «الرجل المريض» الذي اصطلحت القوى الاستعمارية للانقضاض عليه وبانجراح درب طويل للتحرّر في تركيا. ما يتراءى من الاغتيال البشع لخاشقجي أنّه الخطيئة التي تقصم ظهر البعير بما يداهم المجتمع في الجزيرة ودولتها من مصاعب «الزمن السائل» المتربّصة وبما يمكن أن يُتيحَه لدرب الحريّة العربية الشاقّ.
7 - أهم ما يجمع بين الرجلين فكريا هو أنّهما في قطعِهما مع التعلّل في التعاطي مع تردّي حال المسلمين بسرّ الأقدار التي تخفى عن البشر كانا يُعلنان عن ضرورة ولادة فكر وعصر باحث في «الطبائع» والسُنَن بما يطيح بمقوّمات التسلّط السياسي المستند على أوهام تديّن واهم وخانع. ينجم عن هذا وضع المسؤولية الكبرى على الأمّة في التحرّر من الاستبداد الداخلي لأنّ وجوده مقدّمة لتمكُّن الاستبداد الخارجي. عن ذلك قال الكواكبي «إن لم تُحسِنُ أمّة سياسة نفسها أذلّها الله لأمّة أخرى تحكمها، ومتى بلغت أمّة رشدها وعرفت للحرية قدرها استرجعت عزّتها، وهذا عدل».
لم تحتمل دولة «الرجل المريض» قديما هذا القول عندما اغتالت الكواكبي متخلّصة من الاعتبار الأخلاقي للسياسة ومُعْرِضَةً عن أنّ الدولة هي الوجود الفعلي للقيمة الأخلاقية. بشاعةُ ما حصل في اسطنبول لخاشقجي اختبارٌ أخلاقيّ سياسيٌّ عسير. هو أعسر لأنّ منطق السوق وإرادة القوّة وإدارة الخوف في هذا «الزمن السائل» لا ترحم صلابة المركز حين يذهل عن لحظته التاريخية وحين يتصدّى لدروب الشرق الحرّ الوعرة.
احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
- اكتب تعليق
- تعليق
يفيد القارئ من هذه اللوحة التاريخية التي تجمع بين الكواكبي وجمال خاشقجي فكلاهما استشهد في سبيل وطنه على أن نظرية ااجمع بين نخب العلم والمعرفة وسلطان االدين والشريعة أصبح نشازا بل خطرا يهدد كيان الوطن..