قراءة في فنجان " نوبات"
صدر كتاب "نوبات" عن دار زينب للنشر منذ أيام قليلة، خلال الأسبوع الأول من شهر نوفمبر2018 ، ولعل أكثر وسائل الإعلام الثقافية أصيبت بنوبات قلبية منعتها من نشر خبر هذا المولود الأدبي الفريد من نوعه.. ولو كان إصدارا سوقيا (ويقصد به موجها إلى السوق الاستهلاكية) لانتشر وسرى في وسائل الإعلام كالنار في الهشيم. لكن دعنا من هذا الأمر فليس هذا موضوع المقال ولكنه استطراد مثل تلك الاستطرادات التي تفتحت بها أزهار رواية "نوبات". وليس هذا المقال تقييما أدبيا للكتاب فذلك شأن النقاد وأهل الاختصاص ولا ينازعهم فيه أحد ولكن عالم القرّاء له أيضا نواميسه. لذلك سيتم تقديم قراءة حرة غير ملتزمة بشروط علمية أو بضغوط معرفية وهي عبارة عن رد جميل لكل كاتب قدّم لنا زادا معرفيا أو علميا صادقا وخاصة إذا كان يسعى من ورائه تربية النشء وإصلاح المجتمع التونسي. وكما "إنّ زلة اللسان في الواقع ليست زلة إنّما هي ما أضمره عقلنا الباطن ثم فاض به فأظهره" كما جاء في سطور الرواية فإنّ ما نقرأه ونفهمه ونأوّله قد يكون غير الذي يريده الكاتب. ولهذا السبب سعيت لأن أقدم هذه القراءة التي خامرتني بعد قراءة "نوبات" وأردتها "قراءة في فنجان" بعيدة عن النقد والتقييم الأدبي.
كتاب " نوبات" فريد في نسيجه حيث تشارك فيه الشاعران نورة عبيد ومعاوية فرجاني. ويعدّ هذا العمل التشاركي أمرا نادرا في عالم الرواية. قدم الكاتبان مادّة جديدة لم يتعود القارئ تناولها من قبل بأسلوب شيق. تضمّن الكتاب عشرين نوبة (بابا ) تقاسما فيها النوبات وتناوبا على تحريرها كلّ على حدة. عرضت النوبات ملحّفة بأحاسيس نبيلة ممزوجة بغضب هادئ أحيانا وتألم باطني وحسرات وزفرات أحيانا أخرى وكانت هذه الأحاسيس متأثرة بالظروف التي آلت إليها البلاد بعد الثورة بسبب اختلال الأمن في المجتمع و من جرّاء المصائب والنوائب التي حلّت بها . وقد حافظ الكاتبان طوال الرواية على استعمال لغة مهذبة وشريفة عندما كانا يتطرقان إلى المظاهر السلبية التي سادت في المجتمع التونسي بعد الثورة فكانت أحاسيسا صادقة وظاهرة غير متسترة ببراقع ولا مضمرة إيحاءات سلبية نحو أي طرف سياسي معين.
الشركة (بين شاعرين) ليست تركة
لعلّ التزاوج يثمر شيئا جديدا ونافعا وهو ما آلت إليه التجربة التشاركية لرواية " نوبات". ويحصل مثل هذا العمل في عالم الكيمياء على سبيل المثال عندما يتمّ المزج بين مادتين مختلفين. فالتحام جزيئتى هيدروجين مع جزيئة أوكسيجين تولّد الماء الذي جعل الله منه كل شيء حيّا. وكما أنّ الماء هو خلق مغاير عن جزيئاته فقد جاءت رواية النوبات في صورتها وفي موضوعها خلقا جديدا ومختلفا عن الشعر الذي يقرضه كل كاتب على حدة. وقد يكون هذا صنفا من الإبداع في نظر القارئ الحر.
عن النوبات قال الخليل: فعولن فعولن فعولن فعول
تضمّن الكتاب عشرين نوبة تقارب فيها الشعر بالسرد بل تناوبت فيها الأحاسيس والثورات النفسية والحكايات الشيقة والتأملات العميقة. وجاءت النوبات الخمس عشرة الأولى متقاربة في مواضيعها فتناولت الأمن في شتى مظاهره بعد قيام الثورة التونسية. وقدّمها الكاتبان بأسلوب يغلب عليه النمط الشعري وتمّ تركيبها في صورة بحور هائجة ترسل موجات متلاحقة تخلق في نفسية القارئ نوبات وهزات متواصلة ولا يستفيق من بهتته إلا عندما تلطمه الأمواج على حافة الشاطئ لترسل ما بقي من النوبات الخمس الأخيرة فتهدأ فيها عاصفة النوبات وتسير خببا على طريق اليابسة بين مدن الوطن القبلي. ولن نجزم أنّ الكاتبين وهما في الأصل يقرضان الشعر الفصيح لن نجزم أنهما تعمدا هذا الأسلوب البديع فنسجا روايتهما على الرغم من خروجها على أوزان الروايات التقليدية وشذوذها عن كلّ ما عرفه القراء منها إلا أنّ القارئ الطليق يستقبل هذا الانجاز بالرضى وتجذبه النوبات فيستحسنها لما فيها من إيقاعات خفيفة وإشارات وثيقة لما يجري في المجتمع التونسي بعد الثورة.
كتاب " نوبات" يصغى إليه النفور وينتفض له العصفور
جمال العربية السهلة الممتزجة بالإيحاء الشعري والوصف السردي لإبلاغ الفكرة السياسية والمجتمعية دون التعرض إلى نقد أو مهاجمة أي طرف من المجتمع. وهذا الاحترام من شأنه أن يجذب إليه كل القراء مهما كانت انتماءاتهم السياسية. كما تناول الكتاب مواضيع في غاية الأهمية بأسلوب واقعي وأغلبها مرتبط بالأمن فهي مواضيع الساعة في تونس وتشدّ اهتمامات كل التونسيين في الوقت الحاضر ولها أهمية فائقة لأنها تدعو كل المثقفين التونسيين والمواطنين إلى التفكير والتأمل فيما يحدق بالبلاد من أخطار. كما يتضمّن كتاب "نوبات" أحاسيس قوية وأحاديث عديدة وضروبا من المثاقفة والجمال الوصفي. وكلّها تدور في شعاب الثورة التونسية المجيدة. هي نوبات نفسية ونوبات أمنية. فموضوع الأمن جاء مهيمنا في كّل طيات الكتاب ولم تخل نوبة إلا وسرت فيها مرادفات الأمن أوأضدادها. وعالجه الكاتبان بسلاسة فائقة و بحجج دامغة.
رواية " نوبات" : تداوي من يشكو الصداع ( الفكري)
رواية صادقة ويسيرة الفهم وسهلة القراءة لا يوجد في سطورها ملل. يستحسن قراءتها مرتين على الأقل. القراءة الأولى على وزن الخبب بسرعة يفرضها الأسلوب والحكي. أما القراءة الثانية على وزن المتقارب وهو بحر شقيق للخبب ولكنه يساعدك على تأليف المقاربة المجتمعية التونسية في الوقت الحاضر ويتحفك بجمال اللغة وبديع الصور الشعرية.
محمد النفطي
- اكتب تعليق
- تعليق