عبد الحفيظ الهرقام: نحو مقاربة استراتيجية لهجرة الكفاءات التونسية

أن ينظر مجلس الأمن القومي لأوّل مرّة في اجتماعه الأخير بإشراف رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي في هجرة الكفاءات التونسية، إلى جانب مسائل أخرى، أمارة إدراك حادّ لخطورة المسألة  ومؤشّر لانطلاق تفكير معمّق بشأنها يبوّئها منزلة رفيعة في سُلّم الاهتمام بقضايا الأمن القومي بمختلف أبعاده، من حيث أنّها ظاهرة تستوجب حلولا مُجدِّدة على المدى القريب والمتوسّط والبعيد لما لها من بالغ التأثير في أمن تونس الاقتصادي والاجتماعي وفي منظومتها التنموية.

فمردودية هذه المنظومة لن تبلغ أعلى درجات النجاعة والفعالية إِلَّا متى نجحت في توظيف موارد بشريّة عالية الكفاءة، قادرة على تقديم القيمة المضافة المرجوّة فيما يُنجز من خطط وبرامج، لا سيّما تلك التي تهدف إلى تحقيق التقدّم العلمي والتكنولوجي، باعتباره إحدى رافعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ولا شكّ في أنّ منطلق معالجة هذه القضية - التي كانت مجلّتنا قد ألقت عليها أضواء كاشفة في أحد أعدادها السابقة - قراءةٌ متأنّية في أرقام ومعطيات تُبين واقعا أضحى مبعث انشغال وفزع ، في أوساط الطبقة السياسية والمجتمع على حدّ سواء، إذ تفيد الإحصائيات أنّه منذ سنة 2011 إلى يومنا هذا آثرت 8500 كفاءة عالية الهجرة إلى الخارج ، منها 3000 أستاذ جامعي و2300 مهندس وقرابة 1000 طبيب مختصّ.

ومن القطاعات الحسّاسة الأكثر تضرّرا من هذه الظاهرة قطاع تكنولوجيات الاتصال والمعلومات حيث اختار 90 بالمائة من المتخرّجين من المدارس العليا للاتصالات ممّن زاولوا تعلّمهم بتونس أو بالخارج طريق الهجرة، علما وأنّ فرنسا وبلدانا أخرى تغريهم  للعمل فيها بمنحهم رواتب عالية، فضلا عن حقّ الإقامة للقرين أو القرينة وللأبناء. وقد وجدت البلدان الأوروبية في استقطاب الكفاءات من بلدان الجنوب بديلا لسدّ الحاجة إلى  400 ألف مهندس في مختلف الاختصاصات جرّاء هجرة كفاءاتها إلى الولايات المتحدة وكندا، حيث الرواتب أعلى والامتيازات أوفر.          

أمّا في القطاع الطبّي، فإنّ العمادة تقدّر ، بناء على الأرقام المسجّلة بين سنتي 2013 و2017، عدد الأطباء الذين قد يكونوا هاجروا من بداية السنة الحالية إلى موفّى سبتمبر المنقضي بين 50 و 60 طبيبا شهريّا وتتوقّع أن يكون عددهم 900 في سنة 2019 ليصل إلى 2700 في سنة 2022، إذا ما أخذت الظاهرة منحًى تصاعديا وتأخّرت الدولة عن اتّخاذ إجراءات عاجلة للحدّ منها.

ولكن أخطر ما في الأمر أنّ الهجرة تحوّلت اليوم في تونس إلى ثقافة مجتمع، ترسّخت في أذهان الشباب وحتّى الكهول، فالعديد من الطلبة في الشُعب الطبية والهندسية والعلمية، على سبيل المثال، غدوا يحلمون بالهجرة منذ لحظة التحاقهم بمقاعد الجامعة ليعيشوا على وقع رحيل مبرمج، بعد أن فقدوا الأمل في قدرة السياسيين والطبقة الحاكمة على إخراج تونس من نفق أزمتها المستحكمة.

لا ينفع التباكي، في تقديري، على هجرة كفاءات لم تبخل عليها المجموعة الوطنية بما تيسّر لها من إمكانات بشريّة وماديّة من أجل تكوينها بل يتعيّن النظر بعمق في أسبابها لإيقاف النزيف واستجلاء أقوم المسالك لتوظيف الطاقات المهاجرة في خدمة مصالح البلاد ومعاضدة جهدها الإنمائي.

ويبدأ العمل لتفادي القصور الحاصل في معالجة هذه الظاهرة بإحصاء الكفاءات المهاجرة وتصنيفها حسب الاختصاصات قصد إنشاء قاعدة بيانات تحيّن بانتظام حتّى يتسنّى تمتين الصلة بهذه الكفاءات من خلال بعثاتنا الدبلوماسية بالخارج وإتاحة الفرص لها لنقل تجاربها ومعارفها في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية للطلبة والدارسين في تونس وكذلك للقيام بعمليات التأطير اللازمة لأصحاب المؤسّسات الناشئة، إلى غير ذلك من أوجه المساهمة التي لن يتردّد هؤلاء التونسيون في تقديمها بٍرّا بوطنهم وردّا للبعض من حقّه عليهم .

ولعلّ المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية يمثّل الإطار الأنسب لبلورة مقترحات تؤسّس لمقاربة استراتيجية متعدّدة الأبعاد لهجرة الكفاءات التي اعتُبرت عن صواب قضيّة أمن قومي.

عبد الحفيظ الهرقام