خديجة معلَّى: متى تُبحِرُ سفينة الإنقاذ؟
في خضم المناداة الملحة بوجوب إنقاذ الدولة من الانهيارالذي يتهددها، وهي المناداة الصادرة سواء عن تكتلات حزبية، أوعن شخصيات وطنية مستقلة، أوعن منظمات اجتماعية ومهنية، يغيب الحديث عن برنامج دقيق يحقق عملية الإنقاذ تلك بنجاعة، سوى بعض الاقتراحات من هنا وهناك، لتترك الفضاء للتراشق بالتهم في من تسبب فيما آل إليه الوضع الكارثي بالبلاد من فوضى منذرة بـأوخم العواقب.
في نفس الوقت، وفي بارقة أمل بتغليب المصلحة العليا للوطن على كل أنواع الخلافات والصراعات السياسوية من ناحية، وعلى حالة الإحباط والتشاؤم التي طالت جميع شرائح المجتمع ومكوناته من ناحية أخرى، نلمس شبه إجماع من السياسيين والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني على ضرورة المضي في المسار الديمقراطي الذي اختاره الشعب التونسي طيلة السنوات الثماني الماضية.
هذا الإجماع مردُّه الإقرار بأن جملة من المكاسب على محدوديتها، ولكنها عظيمة الشأن، قد تحققت في ظل هذا المسار، لعل أهمها اتفاق مختلف الفصائل السياسية على دستوررسم قواعد وأسس بناء وعمل مؤسسات وسلط الدولة التونسية وإدارة شؤونها بشكل ديمقراطي، وتبوّأ القانون فيه المكانة العليا، وانتخاب هيئة دستورية مستقلة ضمنت تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، تشريعية ورئاسية، لأول مرة في تونس.
وإذا كانت هذه بعض الجوانب النيرة أوالإيجابية في ما قُطع من خطوات في المسار الديمقراطي، فإن للوجه الثاني من العملة جوانب قاتمة وسلبية. ولعل جملة هذه الجوانب يمكن إدراجها في خانة الإخلالات التي تركت أثرا سلبيا على المسارالديمقراطي في السنوات الماضية، وأعاقت نضوجه، إن لم تكن قد ألحقت به تشوهات مختلفة انعكست بالسلب على سير مؤسسات الدولة وأفقدت سلطاتها جانبا من استقلالها وأحدثت فراغا قانونيا وهيكليا وتضاربا في الاختصاصات وفي الأدوار بين مختلف الأطراف السياسية والإدارية والقضائية والتشريعية، مما ترتب عنه نوع من الفوضى خدم الفئات الخارجة على القانون والمتطاولة على الدولة بكل الأشكال.
في سياق هذه الفوضى ذات الأسباب الظاهرة منها والخفية، كنت أتابع مختلف التعاليق والتحاليل سواء من مسؤولين، إداريين أو سياسيين، في الحكم أو في المعارضة، حول متطلبات المرحلة الحرجة وبالغة الخطورة التي تردى إليها الوضع في بلادنا، فلم أظفر بما يشفي غليلي من تحاليل دقيقة متكاملة وموضوعية، إلا ما ندر، حول كيفية مواجهتها من أجل الإنقاذ أولا وإطلاق عملية الإصلاح بعد ذلك.
إن أولى الأوليات في نظري لتهيئة الظروف لعملية إنقاذ ناجعة، تكمن في التعجيل بمعالجة الإخلالات التي سببت تعطل المسارالديمقراطي وبالعمل على تحصينه في المستقبل من أية إخلالات أخرى قد تطرأ في الطريق.
ومما زاد من قناعتي تلك، مقال قرأته هذه الأيام للإعلامي مختار اللواتي وضع فيه الأصبع على الداء، ومع مساندتي التامة لما جاء في هذا المقال، أزيد في التأكيد على ضرورة الإسراع بالإجراءات التالية:
- انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية من بين قضاةٍ محنكين، طويلي الخبرة، ونظيفي الأيدي وبعيدين عن كل شبهات الفساد، ولاصلة لهم بأي حزب سياسي.
- انتخاب رئيس الهيئة الدستورية العليا للإنتخابات، على أساس الكفاءة والمصداقية والاستقلال عن كل الأحزاب.
- المبادرة باتخاذ إجراءات جدية وحاسمة من أجل إماطة اللثام عن لوبيات الفساد وشبكاتها التي نخرت كيان وركائز الدولة والنسيج الإجتماعي، وتقديم أباطرتها والضالعين فيها إلى القضاء كي يصدرأحكامه العادلة فيهم علنية وفي أسرع الأوقات. فليس خافيا على أي وطني غيور، فضلا عن خبراء الاقتصاد والسياسة، ما سببه هذا الداء الفتاك من أضرار فادحة للاقتصاد الوطني والسلم الاجتماعي وللمسارالديمقراطي بالذات.
غير إن الإسراع بإنجاز هذه المهام الأكيدة وذات التأثيرالإيجابي على تنقية المسارالديمقراطي لا يكفي لحاله إذا لم ترفده إجراءات أخرى على ارتباط وثيق بسابقتها. وأعني بذلك الدفع إلى حل الحزب أوالجمعية أوالمنظمة التي يقوم برنامجها على عدم الإعتراف بالنظام الجمهوري، وبالدستور وبالديمقراطية وبالإنتخابات كوسيلة للتداول على السلطة، وأيضا سحب الرخصة لجريدته أو إذاعته أو أي وسيلة إعلامية تحت تصرفه.
أما الأمرالذي لم استوعب لحد الساعة سرعدم اضطلاع الدولة بدورها فيه لإنفاذ القانون وزرع الطمأنينة في النفوس، هو الصمت المطبق على تخلف العديد من الأحزاب والجمعيات الحاصلة على رخص نشاط قانونية، عن كشف مواردها المالية وممتلكات مسؤوليها (وهذا ينسحب أيضا على المسؤولين الحكوميين ونواب مجلس نواب الشعب وغيرهم)، بالرغم من إنذارالدوائرالمعنية لها بالقيام بذلك في آجال محددة.
آتي بعد هذا إلى الإجراءات ذات التأثير المباشرعلى استرجاع جانب مهم من ثقة المواطنات والمواطنين في النوايا المعلنة للإنقاذ وإصلاح الحال. فالوضع المأسوي الذي بلغه اقتصاد البلاد وتدني قيمة عملتها المحلية ومخزونالدولة من العملة الصعبة، يقتضي من أعلى هرم السلطة أن يعطي المثال في الانخراط في برنامج إنقاذ يشمل كذلك كل الميسورين وأصحاب رؤوس الأموال الوطنيين، وذلك بالإسراع بفرض إجراءات تقشفية جدية وناجعة على جميع المسؤولين في مختلف المناصب، بداية برئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة والوزراء مع تقليص عددهم وأعضاء مجلس نواب الشعب. ومما يتأكد أن يشمله هذا الإجراء، والذي تكررت المناداة به على ألسنة الكثيرين، التخفيض الملموس في الرواتب، وتحديد عدد السيارات الإدارية، وخاصة وقف تزويد المسؤولين بمجانية التزود بالوقود، وبسيارات خاصة بهم، ليكون للخطاب الرسمي بشأن التضحية لإنقاذ تونس، مصداقيته لدى المواطنين ويمثل نموذجا يبرهن على جدية السلطة في اتخاذ خطوات إصلاحية تقشفية حقيقية. وهوما لم يلمسوه الى الآن، مما دفع بالكثيرين، مع عوامل أخرى، إلى مقاطعة الانتخابات البلدية الأخيرة، وهذا ضررآخر يلحق بالعملية الديمقراطية ككل.
وبالتوازي مع إنفاذ هذه الإجراءات في أقرب الأوقات، يتم تنظيم حملة واسعة النطاق بين رجال ونساء الأعمال للإسهام بمبالغ جيدة في عملية الإنقاذ الوطني هذه، فليس من المعقول أن يجري اقتطاع 1% من رواتب الموظفين في حملة الاكتتاب بسنة لفائدة دعم ميزانية الدولة، ولا تقام حملة للمساهمة في عملية الإنقاذ الوطنية تلك في أوساط الميسورين والأثرياء! فإذا ما تم الحرص على إنجاز هذه المهام في أسرع وقت، يمكن الحديث عن فتح طاقة أمل للتقدم إلى الأمام في الحديث عن أفق إنقاذ يرتكزعلى قواعد صلبة تضمن فعلا إدارة الخلافات والتنافسات السياسية في إطارمن الاحترام وتغليب مصلحة البلاد على غيرها من المصالح والاعتبارات، وإلا فإن المآل منذر بالخراب!
خديجة معلَّى
- اكتب تعليق
- تعليق