عز الدّين عناية: حاضرة الفاتيكان والإعلام الديني
اتخذت الكنيسة الكاثوليكية استراتيجيات إعلامية متنوّعة اختلفت باختلاف المواسم، وفي الراهن الحالي الذي يقضّ مضجع اللاهوتيين، ما عاد الإعلام الكنسي أساسه القول القائل: إنّ قوّة الحقيقة كفيلٌ بعرضها، بل بات الأمر يتطلّب مِهنية وخبرة ودُربة. عُدّت الكنيسة في عصرنا شريكا إعلاميا بارزا في الأوساط الغربية بشكل عام، وفي الساحة الإيطالية بشكل خاصّ، حيث تعدّدت الوسائط الإعلامية ذات المنحى الكاثوليكي بغرض ترويج مراد الكنيسة الديني والثقافي، وكذلك موقفها السياسي أيضا من عديد القضايا الساخنة. وقد تولّدت الحاجة الماسّة إلى هذا الحضور في أعقاب تقلّص الحضور الفعلي للكنيسة في الواقع، حيث باتت «الكنائس خالية والساحات عامرة»، على حدّ التعبير الشائع، الأمر الذي دعاها إلى تكثيف حضورها في عدة مجالات إعلامية وافتراضية منها، في محاولة لاستغلال القدرات التي يتيحها الإعلام البديل، كلّ ذلك لفائدة ترويج رسالة الكنيسة التي باتت تعتمد سياسة «التبشير بالإنجيل في عالم متغيّر».
من الـــوثـــائق التـــأسيسية التي صدرت عـــن مجمع الفاتيكان الثــــاني (1962 - 1965)، والتي أولَت الشـــأن الإعلامي اهتماما قرار «Inter mirifica» المتعلّق بوســائل الاتصـــال الاجتمـاعي والمصادَق عليه في ديسمبر 1963، فكان من أبرز القرارات التي حثّت الكنيسة على ألاّ تبقى خارج التوظيف والاستغلال للشأن الإعلامي. ورد في نصّ القرار: «تقرّ الكنيسة أنّ الاستغلال المحْكم لهذه الوسائل يمنح مغانم جمّة، لأنّها تسهم بشكل فعّال في تسامي الروح وإغنائها، فضلا عن دعم مملكة الربّ. لكنها تدرك أيضا أن الإنسان يمكن أن يوظِّف تلك الوسائل لهلاكه وضدّ مراد الخالق...كما تؤمن الكنيسة بواجبها في استغلال وسائل الاتصال للتبشير بالخلاص وتعليم البشر الاستعمال الصائب لهذه الوسائل». وقد تدعّم ذلك بالعديد من الرسائل البابوية لعلّ من أهمّها رســـالة البابا بولس السادس بشأن الإعلام المسمّاة بـ»إيفنجلي نونتياندي»، مبيّنا من خلالها أنّ الكنيسة «تشعر أنّها مذنبة أمام ربها إن لم توظّف هذه الأدوات لفائدة الأنْجَلة».
وفي ضــــوء ذلك الحـــرص على الحضور في المجال الإعلامي، يمكن تقسيم وسائل الإعلام الكاثوليكية إلى ثلاثة أصناف رئيسة:
الإعلام المكتوب
الذي تحــــوز فيـــــه الكنيسة الكاثوليكية مجموعة من الصحــف والمجــــلات، ذات الانتشار الواسع، والتي لا يقتصر قرّاءها على رجال الدين والمتديّنين، بل تتوجّه إلى عامّة الناس وتغطّي حاجات شرائح متنوّعة داخل إيطاليا وخارجها. لعلّ أبرز تلك العناوين في الصحافة المكتوبة:
صحيفة «لوسّرْفاتوري رومــــانــو» -المراقب الروماني- وهي صحيفة يومية، تعدّ اللسان الرسمي لحاضرة الفاتيكان، احتفلت أخيرا بمرور قرن ونصف القرن على تأسيسها. ويتميّز محتـــوى الصحيفـــة بالتحــــاليل المعمَّقة للأحداث بناء على وجهة النظر الكاثوليكية، كما تضمّ إلى طاقمها مجموعة من الصحفيين والكتّاب من خارج الأوساط الدينية، ممن يسمّون بالعلمانيين والموالين لخطّ الكنيسة. تليها في المتابعة والاهتمام صحيفة «أَفِنيري» –المستقبل- التي بُعثت مع انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني (1968)، وهي صحيفة يومية ناطقة باسم المؤتمر الأسقفي الإيطالي، الذّراع النافذة لحاضرة الفاتيكان داخل الأوساط الإيطالية، بما أنّ المؤتمر تتركّز مهامه بالأساس على رصـــد المســــارات الدينية والاجتماعية والسياسية داخل إيطاليا، وتـــداوُلها ومُراجعتها مــع كبار الكــرادلة والأســـاقفة في دولة الفاتيكان. ومن جانب آخر تبقى المجلة الأسبوعية «فاميليــا كريستيــــانا» – الأســــرة المسيحية - أكثر المجلات الأسبوعية توزيعا في إيطاليا، وهي مجلة عقائدية تربوية، فضلا عن اهتماماتها الاجتماعية والسيــــاسية من زاوية نظر كاثوليكية، وهي المجلة الأكثر تأثيرا في الطبقات الشعبية. تعضدها كوكبة من المجــلات الدينية مثــــل: المجلة الشهريـــة «30 جورني» –ثلاثون يوما- التي أسّسها السياسي الراحل جوليو أندريوتي، وتوزّع بخمس لغات؛ كذلك مجلة «يسوع» ومجلة «فيفيري» –حياة- الشهرية، ومجلة «غازيتا دالبا» الأسبوعية. تعضد تلك العنـــاوين شبكة نشيطة من دور النشر الكاثوليكية، لعلّ أشهرها «مكتبة النشر الفاتيكانية»، و«ســـان باولو»، و«جاكا بوك»، و«دار التبشير الإيطالية».
الإعلام التلفزي والإذاعي
يتمحور بالأساس حـــــول «مركز تلفزيون الفاتيكان» الذي انطلق عمله سنة 1983، وهو حدّ الساعة لا يحوي في جنباته قناة بثّ بل هو عبارة عن مركز إنتاج وتوزيع؛ لكن يبقى، على المستوى المحلي، وجود عديد المحطات التلفزية الكاثوليكية. بعث «المؤتمر الأسقفي الإيطالي» تليفزيون –TV2000 الذي انطلق بثّه في مرحلة أولى عبر القمر الصناعي ثمّ توسّع في مرحلة لاحقة عبر بثّ أرضي. ذلك في المجال التلفزي، أمّا في مجال البثّ الإذاعي، فيبقى «راديو الفاتيكان»، الذي تأسّس في فيفري من العام 1931، الأبرز في الساحة المحلية والدولية، وهي محطّة تتناول القضايا السياسية والاجتماعية من منظور الكنيسة. المحطّة ناطقة بلغات عدّة منها العربية. ونظرا لطبيعة التقسيم الإداري الكنسي للتراب الإيطالي إلى أبرشيات، بما يضاهي مقاطعات الدولة الإيطالية، فليست هناك أبرشية تخلو من محطّة بثّ إذاعي خاصّة بها. وضمن هذه الشبكة الواسعة من البثّ الإذاعي يمثّل «راديو ماريا» –راديو مريم- ظاهرة إعلامية مسيحية على حدة. حيث انطلقت هذه المحطّة في البـــداية كراديو خاصّ بخورنية محدّدة في منطقة ألتا برييانزا في شمال إيطاليا لتتطوّر وتصبح محطّة بثّ عالمي، تولّدت عنها العديد من المحطّات المحلية، بلغ عددها حتّى الراهن خمسين محطّة، منتشرة في شتّى أنحاء العالم لتُشكّل ما يعرف بـ«الأسرة العالمية لراديو مريم»، وآخرها إنشاءً كان راديو ماريا في البوسنة، وراديو ماريا في غينيا الجديدة، وراديو ماريا في سويسرا. وهي إذاعات في العموم ذات منحى أصولي، أثارت العديد من القلاقل نظرا لخطابها المنغلق والمتشدّد.
الإعلام الإلكتروني
تبقــى سنـــوات الثمانينيات فترة التحوّل العميق في استراتيجيا الإعلام في الكنيسة وقد عُدّ البابا يوحنا بولس الثاني رمز هذا التحوّل، من خلال الإصرار على إحضاره وسط الضجة الإعلامية بشكل دائم ومتتابع. ولا شكّ أنّ مؤسّسة الكنيسة الكاثوليكية في روما، في مساعيها لتجديد دورها وتطويره في الساحة الإعلامية، تستند إلى خبرة عريقة في العمل الإعلامي، مــــا عـــادت تقنع فيها بالوسائل التقليدية. ومن هذا الباب برز اهتمام حاضرة الفاتيكان بالإعلام البديل بعد تعيين كلاوديو ماريا شالي مكلّفا بالمجلس البابوي للإعلام الاجتماعي. ويُعدّ الموقع الرسمــــي للكرسي الرســـولي (www.vatican.va) أبرز المواقع الكاثوليكية على مستوى عالمي. فالموقع يقدّم خدماته بعشر لغات ويرتاد صفحاته خمسون مليون زائر شهريا. وربّما الميزة البارزة لهذا الموقــــع وهـــو الطابع التوثيقي لكل مـــا يتعلّق بالشّأن الفاتيكاني، لذلك بات مرجعـــا للعـــديد من الكتّاب والصحافيين والبــــاحثين المهتـــمين بالشأن الديني الكاثوليكي. لكن أمام تزايد الحاجة إلى الإعلام المواكب للأحداث المتتالية والأخبار المتسارعة، تقرّر منذ فترة وجيزة بعث موقع «نيوز.فا» بخمس لغات، وهو موقع إخباري بالأساس، تعبّــــر من خلاله حاضرة الفاتيكان عن سياستها الخاصّة تجاه القضايا المحلية والدولية. مازال الموقع يشقّ طريقه من حيث التطوّر والمهنية.
ولكن أمام تعدّد المواقع، التي تعرّف نفسها أنّها كاثوليكية، تخشى كنيسة روما فقدان احتكار المعلومة الدينية بالأساس، وهــــو ما مارسته طيلة عهود. فهناك مزاحمة في هرمنوطيقيا النصوص ومزاحمة في ترويج المعلومة، ما يهدّد بانفراط احتكار المعنى الديني. كــما تخشى الكنيسة مـــن الإعلام المناهض بشكل مبـــاشر، وهو مـــا تجلّى بالخصوص في استغلال قضايا مثل قضية راتسبونا والعالم الإسلامي، وقضيّة وليامسون اللوفابري ونفيه للمحرقة اليهوديـــة، أو استغلال مسائل الفضائح الجنسية بين رجال الدين.
بالفعل هزّت الكنيســـة الكــاثوليكية ثورة إعلامية حقيقية، حيـــث جـــرت العــادة في السابق بالسّماح للأعلى رتبة في الأبرشية أو الخورنية بحقّ مراقبة مراسلات الكهنة، ولكن مع الثورة الإعــــلامية تقلّـــص ذلك الامتياز، فكيف تُراقَب الإرساليات القصيرة والسكايـــب والبريــــد الإلكتروني والدردشة وغيرها؟ أمام ذلك التحدّي تسعى الكنيسة جاهدة لإقرار ما يشبه الوفاق الخلقي بين العاملين في الحقل الديني علّها تحدّ من المنافسة القويّة والمناهضة، في بعض الأحيان، وعلّها تعوّض عن تلك الرّقابة المفتقدة.
د. عز الدّين عناية
- اكتب تعليق
- تعليق