اصدارات - 2018.09.10

»الفتنة« للبشير بن سلامة: عندما يمتزج المرجعيّ بالتّخييليّ

«الفتنة» للبشير بن سلامة: عندما يمتزج المرجعيّ بالتّخييليّ

صدر للأستاذ البشير بن سلامة مؤخّرا عمل سرديّ جديد عن دار برق للنّشر والتّوزيع يحمل عنوان «الفتنة»، وهو يقع في 135 صفحة ويحتوي على أربعة فصول. وتقوم حركة القصّ في هذا العمل على استحضار بعض المراحل الدّقيقة من تاريخ تونس الحديث والمعاصر.

ولعلّ أوّل قضيّة يمكن أن يُثيرها هذا الإصدار الجديد بالنّسبة إلى قارئه قضيّة التّصنيف الأجناسيّ، فعتبات الكتاب تُشير إلى أنّه «حكايات»، وهو مصطلح غير شائع في باب الأجناس السّرديّة لأنّ الحكاية Histoire/ Story هي أحد مقوّمات القصّة وهي مضمونها السّرديّ الذّي تؤدّيه الأحداث القائمة على التّتابع واقعيّة كانت أم متخيّلة ، وليست جنسا أدبيّا كالأقصوصة والقصّة والرّواية والسّيرة الذّاتيّة وغيرها.

وتبعا لذلك فإنّ النّاظر في الأثر يجد أنّ الكتاب وإن قُسّم إلى أربع حكايات فإنّ الحدود بينها ليست صارمة ، إذ الحكايات مترابطة متشادّة لا انفصال بينها بما يجعل الأثر أقرب أجناسيّا إلى الرّواية القصيرة Novella.

وممّا يلفت الانتباه في هذا العمل كيفيّة تصرّف الكاتب في أساليب القصّ حيث يكاد يغيب السّرد والوصف غيابا كليّا ليفسحا المجال للحوار يستأثر بمجمل الأثر، فالرّواية كلّها مُحاورة بين الشّخصيّة الرّئيسيّة «المولدي لِمْرَيِّش» والكلبة «ونيسة»، وتُوظَّف هذه المحاورة لاستدعاء بعض الأحداث التّاريخيّة ولا سيّما الفتنة الحسينيّة الباشيّة أوائل القرن الثّامن عشر، والصّراع البورقيبي اليوسفي في صائفة وخريف 1955، واحتدام السّباق نحو خلافة الزّعيم بورقيبة أواسط ثمانينات القرن الماضي.

ويتّخذ المؤلّف الحوار بين «المولدي» و»الكلبة» إطارا لعرض معطيات تاريخيّة تتّصل بالمراحل المذكورة من وجهة نظر لا نخالها إلّا وجهة نظره هو نفسه.

وتفضي مسألة استدعاء التّاريخ إلى طرح قضيّة ثالثة تتصّل بالعلاقة بين المرجعيّ Le référentiel والتّخييلي Le fictionnel في هذه الرّواية والحدود بينهما. ففي الرّواية بعض عناصر التّخييل كإنطاق الحيوان وبعث « المولدي لِمْرَيِّش» من القبر في مستهلّ الفصل الأوّل وتشكيل عالم قصصيّ مقتطع من واقع غير معيّن، ذلك أنّ الأحداث والشّخصيّات في القصّة الإطار (قصّة المولدي وكلبته) لا تحيل على أحداث وقعت على سبيل الحقيقة ولا على أشخاص وُجدوا في التّاريخ. إلّا أنّ الأحداث التّي تُستفاد من الحوار هي أحداث وقعت في التّاريخ والأعلام الذّين تُذكر أسماؤهم أعلام وُجدوا في الحقيقة مثل حسين بن علي وعلي باشا والحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف والمنجي سليم والطّيّب المهيري ومحمّد مزالي وفتحيّة مزالي ونائلة بن عمّار وطارق بن عمّار وصالح المهدي وغيرهم ...

أمّا من النّاحية الدّلاليّة، فالواضح أنّ الرّواية تتنزّل في إطار رؤية المؤلّف لأطوار من تاريخ تونس السّياسيّ لا سيّما وأنّ اسمه (البشير بن سلامة) ذُكر في ثلاثة مواطن من الرّواية (ص62، ص91، ص123)، فالمعروف أنّه تحمّل مسؤوليّات في الدّولة وفي الحزب الاشتراكي الدّستوري في مرحلة مخصوصة من تاريخ البلاد اتّسمت خاصّة باحتدام الصّراع صلب دوائر الحكم من أجل خلافة الزّعيم بورقيبة، وعاصر قبل ذلك الخلاف بين بورقيبة وبن يوسف حول مسألة الحكم الذّاتي فكان لا بدّ أن يُكيّف تموقعه التّاريخي والسّياسي وجهات نظره من تلك الأحداث وأن تنعكس « هويّته الخارجيّة» النّفسيّة والاجتماعيّة على «هويّته التّلفظيّة» الخطابيّة.

ولئن اختار المؤلّف ثلاث فترات تاريخيّة مختلفة هي الفتنة الحسينيّة الباشيّة والصّراع البورقيبي اليوسفي والسّنوات الأخيرة في حكم الزّعيم بورقيبة فلِتعدّد أوجه الشّبه بين تلك المراحل التّي شهدت جميعا – مع قدر من التّفاوت- أجواء فتنة وتباغض وانقسام كادت تؤول إلى ما لا تحمد عقباه.

إلّا أنّ الرّواية – والحقّ يُقال- لم تستلهم التّاريخ على نحو أدبيّ فتعالجه معالجة فنيّة إبداعيّة وتجعله إطارا لبنية قصصيّة متماسكة تصوّر تداعيات السّياق السّياسيّ وآثاره في المجتمع والفكر وإنّما قاربت أحداث التّاريخ بشكل لا يخلو في الغالب من فجاجة ومباشرة بما جعل العناصر المرجعيّة التّاريخيّة تبدو نابية غير متمكنّة.

د.  الحبيب الدّريدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.