تونس: الحالة السياسية والاقتصادية بين الوثيقة والحقيقة
عاشت تونس خلال الأشهر الأخيرة على وقع حمّى وثيقة قرطاج 2 والتي وصفت بأنّها الورقة التي ستجمع الأحزاب الحاكمة والأطراف ذات الفعل اليومي المؤثر في الحدث الميداني كما في القرار سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي تحت خيمة التوافق، من أجل تحديد الخيارات الاستراتيجية والرؤى السياسية الكفيلة بإخراج البلاد من أزماتها التي تعمقت جذورها وطال أمدها، ولكن بدا واضحا أنّ حزب رئيس الجمهورية "نداء تونس" يمثل نقطة الثقل في المعادلة السياسية الداخلية وتوازنها، بعدما قرر الباجي قايد السبسي تعليق المفاوضات حول الوثيقة والتي وقفت عند البند الأخير"عدد 64" والمتعلق بإقالة الشاهد وإجراء تغيير حكومي برغم توافق الأغلبية على ثلاثة وستين بندا في الوثيقة وكأن الوثيقة أعدت من أجله، تبِعها خطاب ناري لرئيس الحكومة والقيادي البارز في نفس الحزب اتهم فيه نجل الرئيس والمدير التنفيذي حافظ قايد السبسي بتدمير حزب النداء وبتصديره للأزمة الداخلية إلى مفاصل الدولة ودواليب الحكم رافضا استقالة حكومته واعتبر أنها ستضر بوضع البلاد ومن استقرارها الأمني والاقتصادي، كما رفض الشريك الأساسي في الحكم والأغلبي برلمانيا حزب حركة النهضة والمتقدم على حزب نداء تونس في الانتخابات البلدية الأخيرة، التخلي عن الشاهد في المرحلة الراهنة دون ايجاد بديل مع تأكيده على أن لا تكون الحكومة ورئيسها معنيين بالرهان الانتخابي القادم، ووسط كل هذا برزت بعض الدعوات داخل مؤسسة الرئاسة وبصفة غير رسمية إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة إلى حين تنصيب المؤسسات الدستورية بما يضمن مزيدا من الاستقرار والثبات على مسار الانتقال الديمقراطي وهو ما جعل عديد التساؤلات تطرح حول ما يحدث داخل هيئة الانتخابات من استقالات ومن صراعات داخلية لا يُعرف منتهاها والتي قد تكون بصورة أو بأخرى سببا أو مدخلا قانونيا لتأجيل الانتخابات.
أمام الطرق المسدودة التي وصلت إليها المشاورات وتأجيل التحوير الوزاري المنتظر، لا تزال الأزمة الاقتصاديةتلقي بظلالها السلبية على الوضع السياسي والإجتماعي في تونس، على الرغم من وجود بعض التقديرات المتفائلةبتحسن منتظر في نسبة النمو خلال العام المالي 2019/ 2020 والتي ستصل إلى حدود 3,5% مع تعافي تدريجي للسياحة والفلاحة والفوسفاط والصناعات التحويلية ، في حين أكدت بعض التقارير الصادرة عن منظمات عالمية والتي تعتمد نتائجها على دراسات تقرير التنافسية العالمي أن تونس لم تشهد أي تحسّن يُذكرفي الأداء منذ إمضاء وثيقة قرطاج 1 وإنهاء الأزمة السياسية التي بدأت ملامحها بعد انتخابات سنة 2014، حيث تم تسجيل زيادة في العجز العام بـ 5,7 % من الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض المدخرات الوطنية الإجماليةب13,1% إضافة إلى ارتفاع الديون المقدرة ب 60,6% من الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2018، وبعد سلسلة منالارتفاعات قدرت بـ 6,9% خلال شهر جانفي 2018 الى 7,7% خلال شهر أفريل 2018، سجلت نسبة التضخمعند الاستهلاك تراجعا إلى حدود 7,5% خلال شهر جويلية مدفوعًا بانخفاض قيمة الدينار، وزيادة معدل ضريبةالقيمة المضافة، والزيادة في أسعار سلع معينة على غرارالاتصالات والوقود والتبغ ...
كل هذا لعب دورا مباشرا في التأثير على غالبية قطاعات الإنتاج وفي نسب تمويل الاستثمارات المحلية من البنوك،وهو ما استوجب تدخل البنك المركزي الذي سارع إلى اصدار قرارات وصفت بالموجعة للحد من نسبة التضخم عبرالترفيع المتواصل في نسبة الفائدة المديرية الرئيسية مما أحدثا تراجعا نسبيا في نسب الإقبال على قروض الاستهلاك والقروض متوسطة وطويلة المدى، إضافة إلى الأزمة الاجتماعية الخانقة للأجراء والموظفين والمتقاعدينّ.ونشير هنا إلى أن أرقاما قياسية تم تسجيلها بخصوص التدخل المفرط للبنك المركزي لضخ السيولة في البنوك والتي وصلت إلى حدود 12 مليار دينار في البنوك أي نحو 5 مليارات دولار، قوبلت بتعليمات من صندوق النقدالدولي أبرز ممولي الدولة التونسية اتجهت نحو تحجيم تدخل البنك المركزي للحد من انزلاق الدينار بالكف عن ضخالعملة الصعبة في سوق الصرف وترك قاعدة العرض والطلب تتحكم وحدها في السوق عملا بقاعدة السوق يصحح نفسه، حتى يأخذ الدينار قيمته الحقيقية أمام الدولار واليورو، كل هذا يجعل المتتبع للشأن التونسي يتساءل عن مدى استقلالية البنك المركزي عن الحكومة وعن مدى التقارب الممكن بينهما في خصوص ارساء استراتيجية تراوح بين سياسة نقدية وسياسة جبائية في اتجاه ضمان إدماج القطاع الموازي في القطاع المنظم بما يمكّن من جلبموارد جديدة للدولة لمواجهة الصعوبات التي تعيشها المالية العمومية.
مؤشرات كثيرة تجعلنا ننظر إلى الحالة التونسية من زوايا وأبعاد متعددة تتجلى أساسا في معضلة الوصول إلى تطويق الخلافات بين الفرقاء السياسيين سواء داخل حزب الرئيس أو بين الأطراف الإجتماعية وخصوصا في قطاع التعليم الثانوي والعالي والصناديق الاجتماعية حيث وصلت إلى مرحلة الإنفجار خلال هذه السنة، وأمام كل هذا التباعد والتنافر الذي أصاب المجتمع تطفو قضية لجنة الحريات للسطح بعدما قدمت رئيستها التقرير النهائي لمؤسسة الرئاسة بما حمله من قضايا حساسة على غرار المساواة في الميراث وإلغاء عقوبة الإعدام وعدم تجريمالمثلية الجنسية، حيث عرف الشارع التونسي أجواء سخنة بين مندّد ومساند وبدت لأغلب المتابعين وكأن المعركة بيندين ولا دين أو بين مسلمين وكفرة، ونحن نتابع كل هذا الحراك نجد أنفسنا أمام تساؤلات جدية حول السبب الحقيقي في استعادة أجواء التعادي وأجواء التنافس بين رؤيتين للدولة والمجتمع : رؤية علمانية لائكية ورؤية إسلامية تراثية، ورغم ما تعيشه الحالة السياسية من توافق في الحكم تواصل منذ سنة 2014 بين العلمانيين والإسلاميين إلا أننا نشهد هذه الحرب الباردة التي يتم اذكاؤها بمثل هذه المشاريع التي بدت وكأنها عملية إسقاط سياسي إيديولوجي لعب دورا واضحا في التوجيه السياسي للمجتمع له علاقة مباشرة بالرهان الانتخابي القادم، وقد بدا ذلك واضحا خصوصا وأن رئيس الجمهورية هو المؤسس والراعي للمشروع البورقيبي كما يتم الترويج له واصراره على تمرير المشروع نابع من إرادته في طمأنة الرأي العام الانتخابي الغاضب من التحالف الحاصل مع الإسلاميين الذين لم يترددوا في مؤتمرهم الأخير عن تعبيرهم عن رفضهم لأي مشروع يتنافى مع الدستور ومع النصوص القرآنية القطعية في رسالة طمأنة أيضا للرأي العام الانتخابي المتمسك بتراث البلاد الديني والرافض لعملية التحديث الفوقي القسري، هذا إضافة إلى تدخل بعض المؤسسات الدينية من خارج تونس والتي اعتبرت أنّ مبادرة قايد السبسي مسّ واضح من النص الديني، كل هذا أسقط العديد من النخب والعديد من النشطاء في المواقع الاجتماعية في خندق السذاجة السياسية والبله الديني والحمق الحداثوي في الوقت الذي يبحث فيه الشعب عنحدّ أدنى من السلم الأهلي ومن الأمن المجتمعي ومن التجدد الإنساني بعيدا عن هذه الصراعات المزدوجة بين الأدييولوجي والسياسي والتي يدفع اليوم الشعب ثمنها فقرا وبطالة وهجرة وانتحارا وإرهابا.
د.لطفي السنوسي
- اكتب تعليق
- تعليق