أخبار - 2018.08.14

...ومن العتـبات مـا يكون مـراوغا: »لاشـــيء يستحـقّ الـذّكـر« للطوف العبد الله

...ومن العتـبات مـا يكون مـراوغا: »لاشـــيء يستحـقّ الـذّكـر« للطوف العبد الله

أن يلقى أمام ناظريك مؤلّف من الحجم المتوسّط لا يكاد عدد صفحاته يبلغ المائة وقد وسم بأنّه من جنس الرواية، لا شكّ في أنّ نفسك ستهفو لقراءته. ثمّ تنظر تحت الوسم فترى اسم الكاتب، وقد لا يستوقفك لأنّك لم تعهد سماعه في زمرة من نُصّبوا أو نصّبوا أنفسهم كتاب رواية في مدوّنة التأليف العربي، أو قد يستوقفك إن كنت طلعة باحثا عن الجديد لتزكية الرصيد... وحين تتجاوز الاسم نازلا منحرفا تتلقّفك مساحة اتّشحت بلون الصحراء ألقي على أديمها ظرف شدّ وثاقه بحبل تسرّب مزدوجا ليحيط بكلّ أطرافه قبل أن يحكم عقده حتّى يستعصي على الحلّ...وتدقّق النّظر فتجد على بعض الحواشي منه بقعا حمراء، تظنّها من الشّمع الأحمر جيء بها لإحكام الغلق ومزيد الحجب، ولكنّك تدرك عند التأمّل أنّها بقع من دم... !!! وتشتد بك الحيرة وتهفو نفسك لبعض الراحة فيجتذبك الخط وقد رسم على صفحة الظّرف علّك تجد فيه ما يطمئنك بإرشادك فتقرأ «لاشيء يستحقّ الذكر»...!!!

عندها تتذكّر المساحة البيضاء في أعلى الصفحة التي لم تقف عندها سلفا، فترتدّ إليها لتجد نفس العبارة وقد رسمت بخط رشيق ليّن «لا شيء يستحقّ الذكر»  فيطرح عندك السؤال الأكبر: هل يدفعك حب الاطلاع ووسوسة نفسك الأمارة بالسوء وسجية العناد فيك إلى فك المستغلق وحل المعقود وتحرير المظروف لتقرأ هذا الذي قيل لك إنه «لا يستحق الذّكر» أم تراك تصدّق ما رسم لك وتكرّر مرّتين وأحكم إخفاؤه فتقرّر أن ترمي بالظّرف والمظروف ظهريا وتريح نفسك فلا تبالي؟؟؟

ولكن قد يدفعك التّأني إلى أن تنتقل إلى السّفر الأخير لتجد صورة لصاحب النصّ وتعريفا موجزا له ينمّ عن تواضع بيّن. وتحت ذلك أسطر ثلاثة منتقاة من متن الكتاب البطلان فيها الشمس والحركة في مقابلة بين الغروب والشروق في أسلوب وعبارة تحولانهما إلى مقابلة بين الحياة والموت... حينها يقوى عندك حبّ الاطّلاع وإساءة النية بمن يريد صدّك ويبخس ما بين يديك فتقرّر رفع السّفر وولوج النصّ لتقف على هذا الذي «لا يستحق الذكر»، فإذا بك تجد نفسك تجاه نصّ قصير مربك أراده صاحبه ـ وفق العادة ـ نبراسا يضيء طريقك، لكنّك تلقاه لا يجلي العتمة ويزيد الحيرة، فتزداد الرغبة. ففي النصّ غضب من المحيط لنكرانه وجحوده واتّخاذ الخيال مطيّة نحو الماضي والذّاكرة وصنع حكاية من رماد يشتبه في وقوعها حقّا...فهل تراك ستواجه نصّا ينقل واقعا حصل أم هو ضرب في الخيال ومنه...؟؟؟ فتقرّ أنّ لا مهرب لك من دخول عالم النصّ علّك تجد لحيرتك مستقرا... وتدخل، فتجد نفسك في فصل وسط بين الصيف والخريف وفي مكان قصّي على إحدى ضفاف نهر الفرات على طريق رابط بين مدينتين تعوّدت سماع اسميهما أخيرا لأحداث مؤلمة طارئة بهما ،هما دير الزور والرقّة. فيطرح عندك أوّل الأسئلة في أيّ زمن أنت؟وتجد نفسك ضيفا على عائلة ريفية بسيطة تستيقظ باكرا وتعدّ طفلها للدراسة. الأم فيها هي البطل والأب كأنّه غائب.أمّا الأحداث فيرويها لك الراوي البطل ذاته، وهو حين ينفرد مفرد «أنا» وحين يلقى الجمع يجمع «نحن». والمكان بين قريتين استوطن أولاها الجنّ وعمّرت الثانية  أشباح خلقها الحكواتي لحراسة كنوز موهومة... ويصل بك الراوي المدرسة، مجال العلم والثقافة، لتحضر محفل تحية العلم على نشيد وشعار حزب تعرف أنّه كان ومازال يحكم حيث أنت . وهناك تشهد طرائف وغرائب. فالتلميذ الأكبر، الأسبوعي العام، يعاقب بشكل فضّ لسبب تافه لن تعرفه إلا متأخّرا، وتقول مع الراوي « سبحان الله منذ لحظات كان يرفع رأسه عاليا إلى السماء محييا العلم والآن يرفع ساقيه إلى الأعلى ليضرب بالعصا !!! «ومدير المدرسة الجادّ معاقب بعدم الترقية للاشتباه في موقفه السياسي ؟ وبحضور الدرس الأوّل تكتشف عقم منهج التّدريس ينقله الراوي إليك بشكل كاريكاتوري ساخر أحدثه تطابق تلقائي بين اسمين في المثال المعتمد ولّد قضيـــة اجتمــاعية لا تخلو من بعد سياسي، وكان حرف الألف الضحية الأولي فأبقي «مشنوقا في أعلى اللوح» لأنّه سبب البلاء لتوّسطه اسمي الفاعل والمفعول به...وما أن يشتد بك الألم حتى ينقلك النصّ إلى مجال جديد تكون لنفسك فيه راحة لأنك تلاقي عبث الصبيان وتعلّقهم التلقائي بالجمال، جمال ريفي طبيعي لا تصنّع فيه ولا صناعة، يستدعي إلى ذهنك قول أبي الطيب المتنبي :

ما أوجه الحضر المستحسنات به    كأوجه البدويات الرعــابــــيـب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية    وفي البداوة حسن غير مجلــوب.

إنّه جمال «درّة» الشخصية المؤثّرة في النصّ دون فعل عدا تأثير جمالها ذاك الذي رسمه الراوي إذ قال: «كانت درّة تتقدّم قليلا قليلا في الماء لتغرف ماء زلالا ، فتضطرّ إلى رفع ثوبها قليلا وتعلّقه في حزامها منعا للبلل فينكشف بياض ساقها المصقولة كالمرمر ويصنع لجين الماء المعجون بشعاع الشمس الباهت خلخالا يفوق الذهب جمالا وبهاء...دوائر الماء التي تتمازح مع نسائم النهر فلا تقوى عليها فتزحف دوائر دوائر إليها فتتلاشى فوق كعبها وتضمحلّ فاسحة المجال لآلاف الدوائر كي تنتحر على لجينها . تنظر إلينا مازحة ببعض رشات الماء من السطل.. وأبصارنا شاخصة إلى معرّى صدرها الذي ما إن تنحني حتى يفتّق رمّان صدرها الأزرار فيظهر الصبح هناك كأنّ الشمس تشرق من جديد ولم تتهيأ للمغيب...تتدلّى ضفيرتان مثل سنبلتي قمح تتعاقبان فوق صدرها تحرسان المقدّس من أبصار الناظرين».

وبعد هذه الاستراحة الرومنسية يعود النصّ إلى مآسي الواقع وقبح العلاقات الاجتماعية لتجد الصراع وصلف الإقطاع ومعاناة المدرّس وسوء وضع التعليم والجدل السياسي والإيديولوجي وصراع الطبقات...والمشهد الديني . كل ذلك في حيّز لا يتجاوز العشر صفحات ثم يردّك بعدها إلى حضن العائلة ومراسم الأفراح والعادات... وتنتقل بعدها إلى المدينة «حلب» بجمالها وصخبها وحركتها وناسها ووسائل نقلهم، فترى بيئة هي نقيض ما كنت فيه. فهناك تجد «السياسة الكبرى» بكل مخاطرها وتناقضاتها ويعترضك العنوان الإشكالي مرة أخرى  ص  33 «لا شيء يستحقّ الذكر» وأنت في خضمّ أحداث وطنية وقومية شائكة تعبّر عنها عبارة  نقيض العنوان ومقابلها «كل شيء يستحقّ الذكر» فتزداد حيرتك من هذا العنوان المربك المخادع... هناك يصبح صيد العصافير بالفخاخ مجرّد رمز أو استعارة لما يسمّ العلاقات الاجتماعية عامّة والسياسية خاصّة من اصطياد وحبك للأحابيل ويختلط الفعل السياسي بالتطبيب والاستنجاد بالسحر والشعوذة، ولعب الأطفال بخدعة الانتخابات وتزويرها وتملّق المسؤولين السياسيين وتبدّل المواقف منهم فجأة والانتصار والهزيمة وما يولّدانه من زهو ثمّ خيبة بفعل المغالطة الإعلامية. وعندها تبرز عبارة العنوان مرّة أخرى» لا شيء يستحق الذكر»غير أنّه الآن سافر كاشف عن مصدره ومحله فإذا به العبارة التي تختم بها المحاضر الرسمية بعد استعراض كل المشاكل ومخاطرها... ولك الآن أن تؤوّل كما ترى...  هكذا يستمرّ تطويح الراوي بك بين المواقع الرحبة فتلقى الرّقة والفرات وجرابلس ، وقد يلتبس عليك الزمن أيضا بين ماضيه وحاضره بل ماضيك وحاضرك أنت، حيث يبقى سلوك الساسة وتلاعبهم وخداعهم وفسادهم ونفاق العامة لهم والمحسوبية في العلاقات والسلوك المخابراتي قاسما مشتركا يزيد من حيرتك. فحتّى الحدث البسيط العارض في السوق إذا تعلّق بمن له صلة ولو واهية بالسياسة يصبح موضوع بحث بوليسي دقيق... فتنكشف حينئذ طبيعة النظام بجلاء، نظام تتحوّل في ظلّه حتى المناسبات العائلية فرصا للرشوة والارتشاء... وتنطق مع الراوي بين مدن القطر السوري من حلب إلى دمشق وتدخل نسيج العلاقات فيها جميعا وتقف على سلوك المسؤول السياسي من كل المواقع والمواقف .ومع ذلك تحدث المفاجأة الكبرى، إذ تصدمك عبارة العنوان بعد كل هذه العوالم والمواقع والمواقف... لتكون خاتمة النص «لا شيء يستحق الذكر» !!! فتزداد حيرتك ويسقط في يدك وتشكّ في فطنتك فتتساءل : أتراني فعلا قد وقعت ؟ هل يكون فعلا كلّ الذي قرأت ورأيت وعايشت ليس فيه «شيء يستحق الذكر» ؟؟؟

وتتوالى عندك الأسئلة : هل هذا الكاتب هازل أم جاد، سليل الواقع هو أم متخيّل حالم ؟ أمتواضع هو محقّر لنصّه أم بارع في الإشهار بالخلف؟ إنه يدفعك حين ينطق بما ينفّرك فتشهد له بالبراعة في المخادعة والقدرة على الإغراء بالضدّ.لقد استطاع في صفحات معدودات أن يأخذك إلى عوالم ويجوب بك مواقع ويوقفك على مشاهد وأحداث، وتشهد للرجل بأنّه قد استبدّ به السّرد وأغراه الحكي فكان للأحداث تابعا ولروايتها مشدودا يجمعها بنهم ويركّبها بسرعة ويختزلها إلى حدّ اللبس، إنّه يلهث وراءها دون توقّف، فليس في نصّه مفاصل بيّنة ولا فقرات معيّنة إذ يستمرّ النصّ متسارعا صفحاتٍ عدّة دون توقّف. إنّه يرهق نفسه ويرهقك معه لأنّ غايته أن يقول أكثر ما يمكن من الأحداث بأقلّ ما يمكن من الكلام، كأنّه يخشى أن تفلت الأحداث منه إن تباطأ أو هو يريد أن يبقي لخيالك البحث في التفاصيل وترتيب النسج وتحديد العلاقات ،فتكون معه قارئا مساهما لا مجرّد مستهلك سلبي...وعندها قد يطرح أمامك أيضا سؤال جنس النصّ؟

وتبقى الحقيقة الثّابتة لديك هي الشّهادة للكاتب بالقدرة على التلاعب بالعتبـــات وجعلهـــا أدوات إبهـــام ومخــادعة فتحكـــم على ما يستحقّ كلّ ذكر بأن «لا شيء (فيه) يستحقّ الذّكر».

محمد عبد العظيم

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.