الحجّــاج بـــــن يـــوســـف وهند إبنة الـنّعـمان أجــمل جميلات عصرها
نصوص قِصار ملأى بالمعاني العِظام، ذاك هو تراثنا القصصيّ العربيّ يزخر بمادّة سرديّة اخباريّة مدهشة ، تعاقبت أجيال من المحدّثين وروّاة الأخبار في نقلها. وسواء أكانت تلك القصص والأخبار موضوعة مؤلَّفة يُراد بها الإمتاع والتّعجيب أم كانت منقولة عن مصدر موثوق بأمانة وحياد فإنّها تضلّ مادّة أدبيّة قائمة في مدوّنة القَصص العربيّ القديم. وهي ما تزال – على القِدَم – تحتفظ بجدّة وطرافة لا تُجحدان ، كالمعتّق من الرّاح يزداد مع الأيّام صفاء ورونقا ، هي جدّ كالهزل وهزل في إهاب الجدّ تقول الكثير من شجون الإنسان على نحو مضمر خفيّ أحيانا وبشكل صريح جليّ أحيانا أخرى بما يجعلها حَرِيَّة بأن تُعرض على القارئ المُعاصر يتملّاها ويستمتع بها ... وهذه الحكاية فاتحة على سبيل الإذاقة لعلّها تثير الشّهيّة إلى الحَكي.
حكاية الحجَّاج وهند ابنة النّعمان
حُكي أنّ هندًا ابنة النّعمان كانت أحسنَ أهلِ زمانِها فوُصف للحجّاجِ حُسنُها فأنفذ إليها يَخطِبُها وبذلَ لها مالاً جزيلاً وتزوّجَها وشرطَ لها عليه بعد الصَّداقِ مَائتَيْ ألفِ درهمٍ ودخل بها ثمّ إنّها انحدرتْ معه إلى بلدِ أبيها المعرَّةِ وكانت هندٌ فصيحةً أديبةً فأقام بها الحجّاجُ بالمعرّةِ مدَّةً طويلةً ثمّ إنّ الحجّاجَ رحل بها إلى العراقِ فأقامت معه ما شاء اللهُ ثمّ دخل عليها في بعضِ الأيّامِ وهي تنظر في المرآةِ وتقولُ:
وما هنـــدُ إلا مهرةٌ عربيةٌ ... سليلــةُ أفــراسٍ تحلَّلهـــا بغــلُ
فإنْ ولَدتْ فَحْلاً فللّهِ دَرُّهَا ... وإنْ ولـدتْ بغلاً فجاء به البغلُ
فانصرف الحجّاجُ راجعًا ولم يدخلْ عليها ولم تكنْ علِمتْ به فأراد الحجّاجُ طلاقَها فأنْفَذَ إليها عبدَ اللهِ ابنَ طاهرٍ وأنفذ لها معه مائتيْ ألف درهمٍ وهي التّي كانتْ لها عليهِ وقال يا ابنَ طاهرٍ طَلِّقْها بكلمتينِ ولا تزِدْ عليهما فدخلَ عبدُ اللهِ بنُ طاهرٍ عليها فقال لها يقول لكِ أبو محمّدٍ الحجّاجُ كنتِ فبِنْتِ وهذه المائتا ألفِ درهمٍ التّي كانتْ لكِ قِبَلَهُ فقالتْ اعلمْ يا ابنَ طاهرٍ أنَّا واللهِ كنّا فما حَمِدْنَا وبِنَّا فما ندِمْنَا وهذه المائتا ألفِ درهمٍ التّي جئتَ بها بشارةٌ لكَ بخلاصِي من كلبِ بني ثقيفٍ ثمّ بعدَ ذلك بلغَ أميرَ المؤمنينَ عبدَ الملكِ بنَ مروانٍ خبرُها ووُصِفَ له جمالُها فأرسلَ إليْهَا يخْطِبُها فأرسلتْ إليه كتَابًا تقول فيه بعد الثَّناءِ عليهِ اعلــمْ يا أميرَ المؤمنينَ أنَّ الإناءَ وَلَغَ فيه الكَلبُ فلمّا قرأَ عبدُ الملكِ الكتابَ ضحكَ من قولها وكتبَ إليها يقول إذَا ولغَ الكلبُ في إناءِ أحدِكُم فلْيَغْسِلْه سبعًا إحداهنَّ بالتُّرابِ فاغْسِلِي الإناء َيحِلُّ الاستعمالُ فلمَّا قرأتْ كتابَ أميرِ المؤمنينَ لمْ يُمْكنْها المخالفةُ فكتبتْ إليهِ بعد الثّناءِ عليهِ يا أميرَ المؤمنينَ واللهِ لا أحُلُّ العَقْدَ إلا بشرطٍ فإنْ قلتَ ما هو الشَّرطُ قلتُ أنْ يقُودَ الحجّاجُ مَحْمِلي مِن المعرَّةِ إلى بلدِكَ التّي أنتَ فيها ويكونُ ماشيًا حافيًا بحِلْيَتِه التّي كان فيها أوْ لا. فلما قرأ عبدُ الملكِ ذلك الكتابَ ضحكَ ضحكًا شديدًا وأنفَذَ إلى الحجَّاج وأمَرَهُ بذلك فلمّا قرأ الحجّاجُ رسالةَ أميرِ المؤمنينَ أجابَ وامتثَلَ الأمرَ ولم يخالِفْ وأنفَذَ إلى هندٍ يأمُرُها بالتَّجهُّزِ فتجهّزَتْ وسارَ الحجّاجُ في موكِبِهِ حتّى وصل المعرّةَ بلدَ هندٍ فركِبَتْ هندٌ في مَحْمِلِ الزّفافِ وركبَ حولَها جواريها وخدمُها وأخذَ الحجّاجُ بزِمامِ البَعيرِ يقودُه ويسيرُ بها فجعلتْ هندٌ تتواغَدُ عليه وتضحكُ مع الهيفاء دايَتِها ثمّ إنّها قالتْ للهيفاءِ يا دايةُ اكشفِي لي سُجُفَ المَحْمِلِ فكشفَتْه فوقَعَ وجهُها في وجهِ الحجّاج فضحِكَتْ عليه فأنْشأَ يقُولُ:
فإنْ تَضْحكِي مِنِّي فيا طولَ ليلةٍ ... تركْتُـكِ فيـهَا كالقِبَـاءِ المُفَرَّجِ
فأجابته هندٌ تقول:
ومـا نُبَالي إذَا أروَاحُنا سَلِمَتْ ... بمَا فقَدْنَاه مــن مالٍ ومن نَشَبِ
فالمالُ مُكتَسَبٌ والعِزُّ مُرتَجَعٌ ... إذَا النُّفُوسُ وَقَاهَا اللهُ مِنْ عَطَبِ
ولم تَزَلْ كذلك تضْحَكُ وتلْعَبُ إلى أنْ قرُبَتْ من بلدِ الخلِيفةِ فرمتْ بدينارٍ على الأرضِ ونادَت يا جمّالُ إنّه قد سقطَ منّا درهمٌ فارْفَعْهُ إلينا فنَظر الحجَّاجُ إلى الأرضِ فلم يجِدْ إلا دينارًا فقال إنّمَا هو دينارٌ فقالتْ بل هو درهمٌ قال بل دينارٌ فقالتْ الحمدُ اللهِ سقط منَّا درهمٌ فعوَّضَنا اللهُ دينارًا فخَجِلَ الحجَّاجُ وسكَتَ ولم يَرُدَّ جوابًا ثُمَّ دَخلَ بها على عبدِ الملكِ بنِ مروانٍ فتزوَّجَها وكان مِنْ أمْرِها ما كان...
من كتاب «المستطرف في كلّ فنّ مستظرف» لبهاء الدين الأبهيشي (ذكر فصحاء النساء وحكايتهنّ، الباب السابع).
- اكتب تعليق
- تعليق