العقيد محسن بن عيسى: إلى أين تسير البلاد ؟!
لا شك أنّنا نعيش جميعا تحت وطأة شعور ثقيل بالمرارة لما وصلت إليه البلاد من تدهور اقتصادي واجتماعي وسياسي. لقد حَكَم الصراع السياسي مفاصل الدولة والنظام، وانعكس سلبا على سير دواليب الحكم. والنتيجة أنّ الرأي العام أصبح ينظر إلى السلطة كمجرّد تدافع مصالح شخصية وحزبية يرافقه تقاذف تُهم لا يمكن أن تؤدّي في النهاية إلا إلى تعميق الجراح والانقسام وتوسيع دائرة التشرذم ومزيد من الفوضى.
لم تع النخب السياسية الدّرس من تجارب الدول التي كرّست معادلة "المهزومين" و"المنتصرين"، وأنتجت انقساما اجتماعيا أعادها إلى مربّع الفقر والجهل والتخلّف.
والسؤال المركزي الذي لم نجب عنه بعدُ، ومن دون الإجابة عنه لن يستقيم لنا صفّ، يتمثّل في سؤال أنفسنا: أين تكمن جذور هذه الأزمة؟ هل في البنية التنظيمية أو الفكرية؟ هل هي في غياب القائد التاريخي الرمز؟ هل هي في ما أصاب الدولة من ترهّل وتنابذ داخلي؟ وهل هي مرتبطة بالمصاعب الاقتصادية والمالية ؟ وهل هي كامنة وراء تزايد الفساد وتفشّي الجريمة و انتشار الإرهاب؟
قد يكون ذلك كله صحيحا بهذه الدرجة أو تلك، لذلك يمكن اختزال الأزمة تحت مسمى " الإخفاق السياسي " الذي رافق حكومات ما بعد 2011 وعرقل مسيرة إعادة بناء الوطن والنهوض بأداء السلطة.
تغليب السلطة على الدولة
سمعنا الكثير عن مبادئ تنظيم الدولة والسلطة لدى الغرب وعن حاجتنا للاستئناس بهذه التجربة، ولكن يبدو أنّ النخب السياسية لدينا لازالت تتعمّد الخلط بين مفهوم الدولة ومفهوم الحكومة أي السلطة. لقد تَعزّز هذا الرأي لدينا حيث عمدت أغلب الحكومات على ربط كل شيء بها فأصبح مصير الدولة بين أيديها وصارت مؤسسات الدولة تعمل لخدمة مصالح الحكومة ومرتبطة بشخصيات السلطة التنفيذية وتابعيها. وانحسرت تبعا لذلك شرعية السلطة لتتمركز في أيدي قُوى محدّدة وفي هذا تراجع في منطق الدولة لمصلحة منطق السلطة.
لقد تأسّس كيان الدولة تدريجيا كواقع قانوني وسياسي واجتماعي وانتظمت فيه علاقة السّلطة بالشعب وفقا لنظرية "العقد الاجتماعي. وفي هذا السياق تمّ تكريس مفاهيم الحقوق وإذكاء روح الولاء للدّولة.
وعلى هذا المعنى تعمل السلطة على تقوية الدولة أو انهيارها، بينما انهيار السلطة لا يعني انهيار الدولة متى كانت قوية وقادرة على حماية نفسها ومكتسباتها.. كما أنّ بناء السلطة لنفسها لا يعني بناء الدولة، فقد تنجح السلطة في بناء نفسها وتفرض هيمنتها على المجتمع، ولكنها تفشل في بناء دولة قوية ذات عزّة ومناعة وسيادة.
ليس غريبا إن قلنا إنّ الدولة لدينا أُصيبت بالوهن أمام استقواء السلطة "صراع القصبة مع قرطاج" ، وليس جديدا إن أضفنا وأن هذا الواقع سيغيّب الدولة إن عاجلا أو آجلا لصالح سلطة جديدة تدعمها بعض الأجهزة.
لقد عرفت تونس منذ "دولة الاستقلال" نخبا وطنية أثّرت بشكل مباشر على ماهية الدولة والحكومة لأنها كانت حاملة لمشروع ذي مضمون اجتماعي وسياسي، ولأنها كانت عقل الدولة ومحرّك مؤسساتها وأجهزتها، على اعتبار أن السلطة التنفيذية ما هي إلا وسيلة أو آلية تمارس الدولة من خلالها سلطتها.
لم يعد غريبا اليوم أن تُصبح الحكومة هي الدولة والدولة هي الحكومة بسبب غياب مفهوم دولة القانون ودولة المؤسسات. وطبيعي أن تَنبعث من جديد مكوّنات ما قبل الدولة لدينا، لتعود منظومة الولاءات والعائلات "المخزنيّة" . إنّ من أخطر الانتكاسات ابتعاد الشرفاء الأوفياء عن الشؤون السياسية وتهافت السفهاء والانتهازيين عليها.
إنّ حجم الاصطفاف التي يعيشه المجتمع وراء السلطة والأحزاب والنقابات والتيارات الدينية والهيئات المستحدثة يوحي بأنّ البلاد تقف أمام مفترق طرق إما الخروج من الأزمة أو الدخول في المجهول لا سمح الله.
لا يحق لهؤلاء جميعا أن تُسخَّرَ مُقدّرات الدولة ومؤسساتها لخدمة "أجنداتهم" وطموحاتهم الضيقة، فمؤسسات الدولة يجب أن تُدار وأن تُستثمر لخدمة المواطنين ورعاية مصالح الشعب دون تأثّر بتعاقب الحكومات، فدولة المؤسّسات لا ترحل برحيل الحكومة والدولة ليست ملكا خاصا لها.
هناك قصور فعلي في المنظومة السياسية لدينا على مستوى الدستور والنظام السياسي وأداء الأحزاب و الكتل البرلمانية، ويستحيل علينا الخروج من هذا المأزق من دون استعادة الدولة وتغليب المصلحة العامة.
تكريس الانقسام الاجتماعي
من البديهي أن ينقسم كلّ مجتمع إلى مجموعات متباينة من حيث الدين والأصول والثقافة والمستوى المعيشي والاقتصادي. وإذ يختلف تفسير هذه الظاهرة تبعا للمتغيّر الذي يتم التركيز عليه، فإنّ المتغيّر الجهوي، والمتغير الثقافي الديني والمتغير الاقتصادي يمثلون أبرز المحدّدات التي تقوم عليها ظاهرة الانقسام لدينا.
المثير في الموضوع أنّ الانقسامات على مستوى المجتمع سرعان ما انتقل تأثيرها نحو العملية السياسية بشكل عام ونحو بُنية الأحزاب بوجه خاص، حيث اتّخذت الأحزاب السياسية أبنيتها وأشكالها وفقا لمصدر ولاءات أعضائها وانتماءاتهم لتصبح مؤشّرا قويا وفاعلا قي تحديد برنامج الحزب وسياسته العامة واتجاهه القيمي وموقعه من السلطة السياسية، الأمر الذي أدّي إلى وجود أحزاب ذات نزعات متصادمة وولاءات اجتماعية مختلفة.
والفكرة الأساسية في كلّ ما سبق هي أنّ الأحزاب السياسية لا يجب أن تعمل على تكريس الانقسام مهما كانت أسبابه، بل عليها أن تسعى انطلاقا من هذا التنوع على إحداث توازن في إطار مؤسساتي منظّم له طابع الاستمرارية و طبعا في إطار الدولة.
لم يعد خافيا على أحد أنّ بعض الأحزاب لا زالت متؤثّرة ببناءات تقليدية في تحديد بُنيتها ووظيفتها وتوجّهاتها ومن ذلك توظيف هذا الانقسام والانتقال به من مستواه الاجتماعي أو الاقتصادي إلى مستوى التأثير المفتعل في العملية السياسية. لقد أصبحت طبيعة الانقسامات في المجتمع لها انعكاس في بنية الأحزاب، التي لا تعمل صراحة وبصفة مباشرة على تقليصها بل تسعى لتفعيلها والزيادة في أدوارها. لقد أصبحنا نتحدث عن انتماءات دينية وأيديولوجية وعن انقسام سياسي حزبي كبير، و خاصة عن إرباك في التماسك الداخلي يحول دون الحدّ من ظاهرة الانقسام الاجتماعي والسياسي.
ختاما، إذا كانت السياسة إدارة وتدبير المجتمع لصالح ما، فإنّنا نطمح لأن تدير التعاون والصراع بين السلطات العيا والأحزاب والنقابات وأن تعزّز العيش المشترك لدينا، وعلى هذا المعنى يصبح العمل السياسي " فن تحقيق الممكن والمتاح " وكذلك " فن العيش المشترك الموسوم بالصراع".
العقيد محسن بن عيسى
متقاعد من سلك الحرس الوطني
- اكتب تعليق
- تعليق