الأسـتـاذ كمــال عمـران, عُلُوٌّ في الحياة و في الممات...
ودّعت السّـــاحة العلميّـــة والثّقافيّة مؤخّرا الأستاذ الجامعي والمثقّف والإعلامي والإمـام الخطــيب الدّكتور كمال عمران الذّي وافته المنيّة على نحو فاجأ أهله وأصدقاءه ومعارفه حتّى أنّ كثيرا ممّن جاءهم خبرُ موته فزعوا فيه بآمالهم إلى الكذب. كيف لا وهو الذّي طبع بحضوره القويّ وفصاحته اللاّفتة كلّ ميادين النّشاط الّتي خاضها وكلّ المحافل والمنتديات التّي ارتادها. كان الأستاذ كمال عمران يملأ ساحات كلّية الآداب بمنّوبة وأروقتها ومدرّجاتها حركة وحيوية، وافر العزم غزير النّشاط معطاء، يدرّس بحماسة منقطعة النّظير ويقدّم زادا دسما لا يحتاج معه الطّالب إلى كبير استزادة من المراجع أو إطالة بحث واستقصاء وتنقيب. وكانت فصوله تكتظّ بطلبة الفرق التي يدرّس لها وبغيرهم من طلبة فرق أخرى يلوذون بدروسه التماسا لما لم يظفروا به في فرقهم الأصليّة فكانوا يُؤتَوْنَ سُؤْلهم وينالون طِلبتهم، ولم يكن ذلك ليثير حفيظة زملائه من الأساتذة فلَشدّ ما كانوا يقدّرون علمه ويُكبِرون اجتهاده وينزّلونه بينهم أرفع المنازل.
وهو إلى ذلك من الأساتذة القلائل الذين كانوا في ذلك العهد لا يستنكفون من محادثة الطّلبة ومباحثتهم خارج فصول الدّرس وخارج ساعاته فتراه محاطا بهم في حلقات نقاش قد يطول ويمتدّ إلى أن يداهمهم جميعا موعد بداية الدّرس الموالي ، ولذلك كانت آمال كثير من طلبة الأستاذيّة آنذاك معلّقة على الانضمام إلى عِداد الباحثين المسجّلين تحت إشرافه في شهادة الكفاءة في البحث. وقد أشرف في تلك الشّهادة على عدد كبير من البحوث في اختصاصات مختلفة، فمن «فتاوي مجلّة الهداية «إلى «الأسطورة في شعر خليل حاوي»، ومن «التّجــربة الرّوحيّــة عند التّوحيدي» إلى «دلالة الوطنيّة في شعر الشّابي»، ومن «معنى التّصوّف في الإشارات اللإلاهيّة» إلى «فكر مــالك بن نبي»، وهو لعمري أمر نـــادر في التّقاليد البحثيّة، ولعلّ من أسباب ذلك أنّه كــان من صفوة الأساتذة المبرّزين مما أهّله ليدرّس مسائل الأدب شعرا ونثرا مسائل الحضارة قديمها وحديثها بالقدر نفسه من التّميّز والإحاطة والإلمام.وممّا أٌثر عن الفقيد قدرته الفائقة على الارتجال سواء أكان في مقام درس أم في مقام محاضرة، إذ هو يبلغ من إحكام إعداد موضوعه وإتقان مراحله وأقسامه وضبط إشكاليّاته ومراميه أن يلقيه على سامعيه مسترسلا متتابعا لا يحتاج في ذلك إلى مراجعة مذكّراته أو تقليب النّظر في أوراقه. أمّا قوّة حافظته فكان طلبته القدامى ومايزالون يروون عنها المدهشات العجيبة الباهرة، فقد كان يستظهر أمامنا ببعض فصول كتاب «الإمتاع والمؤانسة» عن ظهر قلب ويشرح لنا النّصّ مــــن النّصوص فيقـــرأ منه الصّفحة أو الصّفحتين دون الحاجة إلى النّظر إليه فكأنّ فقراته انتقشت في ذاكرته انتقاشا.
وقد لمس كلّ من عاشره واختلط به دماثة أخلاقه ولين عريكته وشدّة تواضعه وتطوّعه لفعل الخير لا يرجو في ذلك جزاء ولا شكورا، وقد حدّثتني السّيّدة الفاضلة رشيدة بويحيى أرملة الأستاذ الكبير الشّاذلي بويحيى بأنّه تطوّع في الآونة الأخيرة للعناية بالمكتبة التّي خلّفها أستاذه الألمعيّ وترميم ما تآكل من نفائسها وفاء لأستاذه وبرّا بتركته العلميّة إلاّ أنّ المنيّة عاجلته قبل الشّروع في ما كان أقرّ العزم عليه. كان متعفّفا مترفّعا لا يرغب في تولّي مناصب ولا يسعى إلى تبوّؤ مواقع، ولكنّ نشاطه الدّؤوب وكفاءته المشهود بها وتعدّد مجالات اهتمامه أهّلته لأن يُجتَبى لإدارة بعض مؤسّسات التّعليم العالي والإشراف على القنوات الإذاعيّة الوطنيّة أو الاضطلاع بخطط استشاريّة في وزارتي التّربية والتّعليم العالي ثمّ لتولّي وزارة الشّؤون الدّينيّة، فلم يأت إلى الوزارة من مسالك السّياسة والتّحزّب وإنّما من مسالك العلم والثّقافة والتّفقّه في الدّين.
رحـم الله الأستاذ كمــال عمران، لقــد كــان مثالا للتّفاني والجدّ والاستقامة، وأســوة حسنة لكثير من طلبته: مربّيا فاضلا وعالما جليلا ومثقّفا وطنيا.
د.الحبيب الدريدي
- اكتب تعليق
- تعليق