احميده النيفر: التصوّف ذلك المجهول
1 - ظلّ المفكّرون الإصلاحيون في عموم البلاد العربية مُتّفقين حول السؤال الإشكالّي الذي صاغه شكيب أرسلان (تـ.1946) في العبارة المشهورة: لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟
في السؤال إقرار بواقع التخلّف الذي اشتركت في الوعي به كلّ التعبيرات الإصلاحيّة العربيّة، لكنّه في الوقت نفسه كان اختزالا لتوجّه فكرّي ورؤية للتاريخ الإنساني لا تكاد تُخفي إنكارا لما آلت إليه الأمور. ذلك أنّ سؤال الإصلاح فيه من جهة موقف مُنكر لافتكاك الريادة من المسلمين وهو، من جهة أخرى، سؤال قائم على تناظر بين «النحن- المركز» و«الآخر- الهامش» الذي وإن صار في مركزّية الفعل التّاريخي فكأنّه في تقدير الإصلاحيين أقرب للحدث العارض غير المبرّر.
من النّاحية المعرفّية لا يؤثّر سؤال الإصلاح في تطوير الوعي الذّاتي لأنّه يُخفي إعراضا عن الحراك التّاريخي والمعرفة الإنسانّية بما يؤدّي إلى الاعتقاد أن تقدّم المسلمين قديما كان لأنّهم «مسلمون» فقط وأنّ الدّين والتديّن لا يمتلكان بعدا حضارّيا ولاصلة له بصيرورة المعرفة والفعل الإنسانيين.
2 - نفس السؤال يُحيل إلى ما سماّه «مرسيا إلياد» Mircea Eliade (1986 - 1907) بفجيعة الإنسان التقليدي في التّاريخ. تلك الفجيعة التّي وقع تكريسها منذ القرن الخامس الهجري عبر جملة من المقولات من أهمّها: «التقدّم نحو الأسوإ وما استُنتِج من الحديث النبوي: «خير القرون قرني ...» ومقولة آخر الزّمان ومقولة المهدي المنتظر التي تكمّلها.
جملةُ هذه العناصر كوّنت الفجيعة القديمة- الجديدة في التّاريخ والتي صوّرها أبو بكر الطرطوشي (تـ.520هـ/1126م) حين تحدّث عن الدّهر الخَؤون فقال: «أمّا اليوم فقد ذهب صفو الزّمان وبقي كدره فالموت تحفة لكلّ مسلم، كأنّ الخير أصبح خاملا والشّر أصبح ناظرا.. كأنّ اللؤم أصبح باسقا والكرم خاويا وكأنّ الأشرار أصبحوا يسأمون السماء وأصبح الأخيار يرَدّون بطن الأرض».
3 - إزاء هذه الفجيعة وسؤال الإصلاحيين الإشكالي قدّم المفكر محمد إقبال (1876 - 1938) في كتابه «تجديد الفكـــر الدّيني في الإسلام «ســـؤالا بديلا عمّا صاغه الإصلاحيون هو: «هل الدّين أمــر ممكن؟».
لهذا السؤال أكثر من معنى إذ أنّه بحثٌ في الانخراط الفكري الواعي للمسلم في العصر الحديث بما يؤدّي إلى إقامة جدل الحداثة بالتجربة الدّينية الذّاتية وبالوعي التاريخي وهو أيضا تجاوز لفكرة الصِّدام بين الشرق والغرب وبين الإسلام والماديّة.
حصيلة السؤال البديل أنّه يفتح على زخم فكري وروحي وحضاري واستراتيجي يؤدّي ضرورة إلى إعادة النظر في جملة من المفاهيم التأسيسية من أبرزها علاقة الدّين بالمعرفة وفي جوانب عمليّة من أهمّها من أين نبدأ؟
من أهمّ إضافات السؤال الإشكالي البديل الذي صاغه إقبال تعريفه للدّين بأنّه إيمان بمصير الإنسان بما يجعل الحياة الدينّية رياضة رفيعة يكتشف بها المؤمن ذاتَه بما تُتيحه من عمق يوسِّع نظره ويرسّخ قدرتَه العمليّة وفاعليّتَه في العالَم بالنّسبة إلى نفسّية الفرد العادّية. بهذا تصبح العلاقة بالمعرفة بما تتطلّبه من منهج تجريبي يجعل المحسوس المتناهي نصب العينين من أجل ارتقاء الذّات وتركيز قوّاها في ذات الوقت الذي تحصل به المعرفة.
4 - من ثمّ يندفع سؤال إقبال «هل الدّين أمر ممكن؟» إلى أقصاه ليحدّد المفهوم الصميمي الذي ينبغي الاعتماد عليه في الخيارات الاجتماعية والتربوية والسياسية. إنّه مفهوم الذّات الحرّة التّي تحقّق ممكنات لا تتكرّر والذي يجعله مغايرا للمنهج الفقهيّ الذّي سادت حجّته عقودا ممتدّة من الزّمن.
في هذا يعلن إقبال بجرأة واضحة أنّ مصير شعب من الشّعوب لا يتوقّف على النّظام الذّي يحرص الفقيه على حمايته وتركيزه بقدر ما يتوقّف على قيمة الأفراد وقوّتهم ضمن ذلك المجتمع. هو بذلك يعيد طرح الخلاف القديم المتعلّق بالصّراع بين الفقهاء والمتصّوفة على أسس جديدة ليحسم ما لم يُحسَم في التاريخ الإسلامي إلاّ بالعنف والإقصاء. في هذا لا يتردّد محمد إقبال في اعتبار أن «المنهج الفقهيّ» وقائيٌّ وعاجزٌ عن امتلاك الطاقة الإبداعية التي تتطلّبها شروط التّجديد من أجل تجاوز الخطاب الإصلاحي الذي استنفذ أغراضه.
وقوف محمد إقبال مع أهل التصوّف ليس بمعنى التّخاذل السّائد للتصوّف ولكن لكونهم يستطيعون إيقاظ المسلمين من سباتهم الرّوحي بتوجيههم إلى المعني العميق للوحي الإلهي في إيمانه بمصير الإنسان وفي رهانه على طاقات الفرد في الارتقاء بشتّى أبعاده وقوّاه.
5 - عند استحضار هذه الأطروحة فيما تتيحه من نقد «المنهج الفقهي» وتبنّي موقف واضح من مسألة أولوية بناء الفرد المتجاوز للقيد الاجتماعي والقانوني استحداثا لقيم جديدة لا بدّ من العود إلى الجوانب المؤسّسة للتصوّف الإسلامي فيما صنعه في أولية بناء الفرد إزاء مصلحة الجماعة وقدرات الانتظام الاجتماعي وحاجياته الحيويّة.
لا بدّ في هذا من ملاحظة أنّ كثيرا ممّا نحمله من أفكار متعلّقة بأهل التصوّف بحاجة إلى مراجعة جديّة لإنكارها راهنيّة الفكر والسّلوك لدى الصوفي. هي أفكار وأحكام وقع توارثها دون كبير تمحيص نتيجة الصّراع القديم بين الفقهاء والمتصّوفة إضافة إلى ما واجهه التصوّف بعد ذلك من دعاة الإصلاح وغيرهم من حملات تشويه وتدمير.
لا بدّ أن نتساءل إذن: أيمكن التّصديق بأنّ الصّوفي مَعنِــيٌّ بخلاصه الفردي فقط وأنّه خانع مستسلم لشيخه لا يحكِّم عقلا ولا يرعى حقّ جماعة المسلمين عليه؟
6 - لمحاولة الإجابة نستعرض بعض الرّقائق التي يمكن أن تساعدنا على إعادة النّظر في مدى راهنية الصّوفي ورهافة حسّه الدنيوي والحضاري.
عن عمرو بن عثمان المكّي (تـ 291 هـ) قال «التصوّف أن يكون العبد في كلّ وقته مشغولاً بما هو أولى في الوقت» ونَقل السريّ السقطي ( تـ 251 هـ) عن الجُنيد ( تـ 297 هـ) شيخ الطائفة: مارستُ كلَّ شيء من أمر الزّهد فنِلْتُ منه ما أريد إلاّ الزّهد في النّاس فإنّي لم أبلغه ولم أُطِــقْــه». أمّا القشيري (تـ 465 هـ) فيروي عن إبراهيم بن أدهم (تـ 162 هـ) أنّه قيل له: إنّ اللحم قد غلا فقال أرخصوه، أي لا تشتروه ثمّ أنشد:
إذا اللحـم غلا عليّ تـركتُـه *** فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
أمّا بخصوص ما ينسب إلى أهل التصوّف من العجائب والكرامات فإنّ رجلا جاء إلى سهل التستري (تـ 283 هـ) وقال إنّ الناس يقولون إنّك تمشي على الماء. فقال سهل: مؤذِّنُ المَحَلَّة رجلٌ صالح لا يكذب فاسألْه. فسأله فقال المؤذّن: لا أدري هذا ولكن كان في بعض الأيام نَزَلَ الحوض ليتطهّر فوقع في الماء فلو لم أُخرجه أنا لبقي فيه».
أمّا بـِـشر (تـ 227 هـ) فقد مرّ ببعض النّاس فقالوا هذا رجل لا ينام الليل كلّه ولا يفطر إلا في كلّ ثلاثة أيام. بكى بِشر قائلا إنّي لا أذكر أنّي سهرت ليلة كاملة، ولا أنّي صمت يوما ولم أُفطر من ليلتي ولكن الله سبحانه يُلقي في القلوب أكثر ممّا يفعل العبد».
لهذا نبّه كبار الصوفية منذ وقت مبكِّر إلى إنكار تلك المبالغات وضرورة التصدّي لتلك القصص الملهبة للخيال عن أهل التصوّف. من ذلك ما نُقل عن الجُنيد أنّ أبا الحسن النوري (تـ 295 هـ) أخذ «قصبة من الصبيان وقام بين زورقين وقال: وعِزّتكَ وجلالك لئن لم تُخرج سمكةً فيها ثلاثة أرطال لأُغرقنَّ نفسي. علّق الجنيد قائلا: «كان حكمه أن تَخرج له أفعى تلدغه».
7 - أمّا عن استسلام المريد لما يعلّمه شيخه الصوفي من معانٍ فهو أمر نسبيّ ولو كان بالإطلاق السّائد لمّا تعدّدت الطّرق وكثرتْ المشائخ واختلفتْ التوجّهات؟
في ذلك قال القُشيري مبرزا اختلاف الصوفي مع شيخه في الفهم حسب التجربة والمعاناة:» دخل عليّ شابٌّ فسألني عن التّوبة. فقلت: التّوبة أن لا تنسى ذنبك. فعارضني وقال: التّوبة أن تنسى ذنبك.
مؤدّى كلّ هذا أن عَمَل الصوفيّ من أجل تنشئة الذات الحرّة عبر قيمتي الزّهد والقناعة هو في ذات الوقت إدراك دقيق لقوانين النّفس والسّوق والسّياق، ولعلّ هذا ما جعل أبو بكر الرازي يقول: من لم ينظر في التصوّف فهو غبيّ»؟ بما يؤكد أنّ ما بلغنا من حكايات التصوّف السلبي يعود إلى فترات متأخّرة عندما عمّ بلاء الجهل وسوء الحال والاعتقاد وهو ما شمل الصوفي كالفقـيه والأديب والسياسي دون فرق.
احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
- اكتب تعليق
- تعليق