رشيد خشانة: لماذا لطم قابيل هابيل؟ الصراع الندائـي ــ الندائي يشلُّ الدولة

 رشيد خشانة: لماذا لطم قابيل هابيل؟ الصراع الندائـي ــ الندائي يشلُّ الدولة

تغرق البلاد في دوّامة أزمة سياسية لا سابقة لها منذ إقرار النظام السياسي الحالي بمقتضى دستور 27 جانفي 2014، كان آخر مؤشّراتها عزل وزير الداخلية. تختلف الأزمة الراهنة عن الأزمة التي انتهت برحيل حكومة الحبيب الصيد في 2016، لأن الأخير مستقلٌ، فلم تتعثّر القيادات الحزبية مباشرة في خيوط الأزمة. أمّا في هذه المرّة فيتعلّق الأمر بحرب أهلية بين أجنحة الحزب الحاكم، تدور رحاها في ثلاث دوائر هي الحزب والحكومة والكتلة البرلمانية، ولا يُستبعد أن تتوسّع في المستقبل إلى المستشارين الندائيين في الدوائر البلدية التي حصد فيها حزبُهم أعلى الأصوات.

من المشاهد غير المألوفة في الأنظمة الديمقراطية أن نرى مساعدي المدير التنفيذي للحزب الحاكم يقصفون رئيس حكومتـ «هم» بالأسلحة الإعلامية الثقيلة، وهو يتحاشى الضربات في صمت. وعلى مدى أكثر من سنة كان مستشارو المدير التنفيذي يظهرون في الإعلام ليقولوا في رئيس الحكومة ما لم يقُلهُ مالك في الخمر، وليُطالبوا جهرا بإقالته. وبينما يسعى المدير التنفيذي لحزب «النداء» إلى الإطاحة برئيس الحكومة، القيادي في الحزب نفسه، يعمل هذا الأخير على إحداث تغيير نوعي في قيادة الحزب يُبعد المناوئين له، على أمل استكمال مهامه على رأس الحكومة حتّى موعد الانتخابات المقبلة. هذا الصراع قديمٌ، وتزامن بروزُه على سطح الحياة السياسية مع انطلاق ما سمّاه رئيس الحكومة بـ«الحرب على الإرهاب» التي لم تكن سوى إحدى تجلّيات الصراع الندائي/ الندائي.

انسلاخات على موجات

لم يكن رئيس الحكومة طرفا مباشرا في سلسلة الصراعات التي هزّت حزبه، وجعلت عددا هامّا من قياداته ينسلخون منه، ويُنشئون كيانات جديدة. ولو دققنا في دوافع الانشقاقات لألفينا أنّ أساسها صراعٌ على قيادة الحزب منشؤه عدم قدرة المدير التنفيذي على فرض الهيبة والانضباط، لأنّه لم يأت من انتخابات داخلية، ولا هو قاد قوائم الحزب إلى نصر في انتخابات عامّة. وهكذا فإنّ «معركة الشرعية» لم تبدأ مع رئيس الحكومة، وإنّما مع سلاسل المنسلخين والمنتقدين المُطالبين بإعادة ترتيب شؤون البيت من الداخل. أكثر من ذلك، تؤكّد مصادر ندائية أنّ الخلافات اندلعت قبل «الحرب على الفساد» وأنّ شرارتها انطلقت مع رفض رئيس الحكومة الاستجابة لقائمة تسميات أحالها إليه المدير التنفيذي، وهو سلوك تكرّر أكثر من مرّة، على ما يقول هؤلاء. في النتيجة ضاق الشاهد ذرعا بتدخّلات المدير التنفيذي في عمل الحكومة، فأخرج الصراع إلى العلن، مع أنّ فصوله وتفاصيله كانت حديث الشارع منذ أكثر من سنة. وفي الجوهر لا وجود لخلاف بين جناحي «النداء» على أحقيّة حزبهم في الاحتفاظ بأغلبية الحقائب الوزارية، حتّى بعد فقدانه أجزاء هامّة من كتلته البرلمانية في السنوات الأخيرة.

تقاسُم دوائر النّفوذ 

كان هناك نوعٌ من تقاسُم دوائر النّفوذ على قاعدة «الحزب لك والحكومة لي»، على أن تبقى الكتلة البرلمانية حكما بين الأخوين المتقاتلين. لم تصمد تلك المعادلة بسبب تفكّك الكتلة وغلبة الاعتبارات الشخصية قبل السياسية لدى المُنشقّين عن النداء. وفي ميزان الربح والخسارة يُعتبر هذا العنصر في غير صالح المدير التنفيذي لأنّه يُجرّده من إمكان حجب الثقة عن الحكومة في البرلمان، خصوصا أنّ حليفته «النهضة»، التي يحتاج لأصواتها لتشكيل أغلبية، تقف موقفا مختلفا تماما، مُتشبّثة علنا ببقاء الحكومة. ويُعزى هذا الخيار إلى الوضع المريح الذي تتمتّع به الحركة حاليا، فهي تتحكّم عمليا في الحقائب الاقتصادية، سواء من خلال مستشارين في رئاسة الحكومة، أو من خلال حقائب وزارية. وهي تعلم أنّها لا يمكن أن تضمن أنّ رئيس الحكومة المقبل سيمنحها وضعا مماثلا. وربّما ما يزيد من مخاوفها أنّ «المحافظين الجدد» في النداء يعتبرون الشاهد مُفرِطا ويتوعّدون باستعادة الحقوق الضائعة من خلال الحكومة التي يعملون على تشكيلها، لكي تحلَّ محلَّ الحالية. والمسألة الوحيدة التي تُشيع القلق لدى «النهضة» هي احتمال تفكير الشاهد في الترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة، ولذا نرى تركيزا استثنائيا من حركة «النهضة» على هذه المسألة للحصول على أكثر ما يمكن من الضمانات، كي يتعهّد الشاهد بالامتناع عن ارتكاب هذه «الكبيرة». وفعلا عبّر الشاهد أكثر من مرّة عن كونه لا يُضمر «مطامح شخصية»، في إشارة للانتخابات الرئاسية 2019، غير أنّ ذلك التعهّد لا يكفي «النهضة» على ما يبدو، خاصّة أنّ الأمر أتى بعد احتكاكات بين الحزبين أثناء الانتخابات البلدية الأخيرة، مُذكّرا بكونهما المتنافسين الكبيرين في الساحة. ولا شكّ في أنّ العلاقات بينهما لن تكون بعد نتائج الانتخابات البلدية مثلما كانت قبلها. وأتت إقالة وزير الداخلية لتُزيح غريم الشاهد الأول من الحكومة، الذي كان يتحدّى رئيسه ويرفض الانضباط لتعليماته. واكتست التنحية أبعادا اقليمية أوسع من الدائرة التونسية، إذ سبق للوزير المُقال أن حظي بمعاملة استثنائية خلال الزيارة التي أدّاها للسعودية على مدى خمسة أيام، فخُصّصت له طائرة خاصة وحظي باستقبال الملك سلمان وولي العهد (الحاكم الفعلي للبلد) محمد بن سلمان. وذهبت التسريبات إلى حدّ الترويج لكونه اجتمع مع بن علي في السعودية. وفي جميع الأحوال، أبانت الزيارة عن اهتمام المحور الإماراتي السعودي باختراق الحكومة لإحداث «توازن» مع ما تعتبره ميلا للكفة لصالح «النهضة»، المُتحالفة مع قطر وتركيا. وبالرّغم من أنّ الوزير المعزول لم يكن طرفا في الصراعات الداخلية لـ«النداء»، إلاّ أنّ المدير التنفيذي تبنّاه وكان يُناصرُه في مواجهة رئيس الحكومة، وهناك من يقول إنّه كان يُعدُّه لخلافته.

ما موقف رئيس الجمهورية ومؤسّس الحزب، وهو الذي اختار الشاهد لرئاسة الحكومة في سبتمبر 2016، وبارك أيضا تسمية نجله على رأس إدارة حزب «النداء»؟ اكتفى رئيس الدولة في الاجتماع الأخير للموقّعين على وثيقة قرطاج بمعاينة الخلاف الذي يشقّ المحيطين بالمائدة، فعلّق الاجتماعات ممّا يعني استمرار حكومة الشاهد، بوصفها حكومة الأمر الواقع. أمّا عزل وزير الداخلية فلا شكّ أنّه تمّ بضوء أخضر من الرئاسة، التي تحتفظ كما هو معروف بالإشراف على حقائب الدفاع والأمن والخارجية، وهــو ما عزّز مواقع رئيس الحكومة... ربّما مؤقّتا، لأنّه لا شيء يمنع رئيس الجمهورية، المُتعلّم في مدرسة بورقيبة، من شكر الوزير الأول اليوم وإقالته غدا. أمّا الشاهد فالظّاهر أنّه صبر على خصومه طيلة الفترة الماضية، كي لا يتمّ التشويش على الاستعدادات للانتخابات البلدية، ومسح الهزيمة المحتومة في ثيابه.

حيرة التونسيين

بين صبر الشاهد وتلك المشاهد، ضاعت بوصلة التونسيين، فلم يفهموا ما يدور في البيت الندائي، ولماذا لطم قابيل هابيل، ولماذا ردَّ هابيل الصاع صاعين؟ كما لم يُدركوا خفايا الصراع بين الشاهد والوزير المُقال. في الواقع تبلور اصطفافٌ جديدٌ بين الأطراف الموقّعة على وثيقة قرطاج، انقلب بموجبه اتحاد الشغل من السند الرئيس للحكومة إلى المطالب الرئيس برحيلها، مُستندا على أرقام الاخفاقات الاقتصادية والاجتماعية، التي اعتمدتها  قيادة «النداء». وتلعثمت باقي المنظمات الوطنية والأحزاب المشاركة، أو لاذت بالصّمت، فحلَّ نوع جديد من الاستقطاب، قائمٌ على ثنائيات كبرى: اتحاد الشغل/ الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، و«النداء»/ «النهضة»...

في المُحصِلة تضعضعت الحكومة بفعل الصراع الندائي ـ الندائي، وبات ظهرُها مكشوفا بسبب الرماح التي استهدفتها، وهو ما يفُتُّ من عضدها ويُضعف قدرتها على التفاوض مع الأطراف الخارجية في ظرف دقيق كهذا. وأمام الخطر الإرهابي الذي مازال يشكّل مصدر تهديد حقيقي للبلاد، لا سيما بعد انتهاء الحرب تقريبا في سوريا والعراق، يغدو الانشغال بالمناكفات بين الأحزاب والمشاحنات الداخلية قلّة شعور بالمسؤولية واستخفافا بمصالح الدولة. وينبني على ذلك انتشار سلوك عامّ يتّسم بالاستهتار وعدم الانضباط، لمسناه في عدّة تحرّكات عبر جهات البلاد، فالمتخاصمون يُساهمون في تعميق تلك المواقف الحاطة من هيبة الدولة والمُسوّقة للفوضى، بحجّة الحقّ في المعارضة. ولو لم تكن لدينا مؤسّسة عسكرية وأخرى أمنية محترفتان تضطلعان بمهمّة احتواء الظاهرة الإرهابية لكان وضعنا لا يختلف كثيرا رُبّما عن بعض جيراننا. قُصارى القول إنّ الاختناقات التي تُطبقُ على أنفاس الاقتصاد، بدءا من التجارة الموازية وعجز المؤسّسات العمومية، مرورا بإفلاس الصناديق الاجتماعية، وانتهاء بأزمة صندوق التعويض، تستوجب الكفّ عن التناهُش بين الغرماء، والتحلّي بالمسؤولية لإقامة خطوط دفــاع تقي البلاد من مخاطر الغرق التــدريجي والنزول إلى جحيم الفوضى.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.