عبد الحفيظ الهرقام: معارك خـاطـئـة في توقيـت خاطـئ
لم تعد أخبار التحويرات الوزاريّة في تونس اليوم تستهوي قطاعا واسعا من الرأي العام أو تثير فضوله كما كان الشأن في ماض قريب، بل يكاد يقتصر أمر هذه التحويرات على فئة ضيّقة من التونسيين، وفي طليعتهم الطامعون في مغانم السلطة ومباهجها أو الساعون إلى الاحتماء تحت مظلّتها. فأن يكون التغيير الحكومي، جذريّا وشاملا، كما طالب به البعض، أو جزئيا، كما دعا إليه البعض الآخر، حرصا منهــم على «الاستقرار السيــاسي»، فتلك مســـألة لا نخالها تتصدّر اهتمامات عامّة الناس، على الرّغم من إدراكهم لخطورة المهمّة المنوطة بعهدة الفريق الحكومي وبقيّة أطراف الحكم، في سياق أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة تمرّ بها البلاد، فلا يلقى الشأن العامّ منهم سوى المتابعة الفاترة، إن لم نقل اللّامبالاة، بدل التحمّس للانخراط الفاعل فيه.
وقد كشف عزوف نسبة هامّة من الناخبين عن المشاركة في الانتخابات البلدية الأخيرة وحصول القائمات المستقلّة على أكبر عدد من المقاعد في المجالس البلدية القادمة عن سخط جانب من التونسيين -ليس بالقليل- من الأحزاب، بل من الطبقة السياسية برمّتها، فعوقبت أشدّ عقاب جرّاء عجزها عن إيجاد حلول ناجعة للمشاكل القائمة وتحمّلها القسط الأوفر من المسؤولية في الانحدار المفزع الذي ذهبت فيه البلاد مراحل قصيّة في مختلف المجالات.. رافق هذا الانحدار تغيّر عميق ومتدرّج في المزاج العامّ من انتشاء وتفاؤل نسبي عقب 14 جانفي 2011 إلى خيبة أمل من المنجز في الحياة اليومية وفِي قضايا التشغيل والتنمية والعدالة الاجتماعية، ما لبثت أن تحوّلت، على مدى الأيّام، إلى شعور بالإحباط وخوف من المستقبل المجهول، بسبب انسداد الأفق وضبابية الرؤية.
نخب علمية وإطارات مقتدرة بذلت المجموعة الوطنية جهودا سخيّة من أجل تكوينها تهاجر بأعداد وافرة كلّ سنة إلى أوروبا وأمريكا والخليج حيث رفاه الحياة وسعة الدّخل.. وشباب فاقد للأمل وجحافل من المهمّشين والفقراء يغامرون بأنفسهم في عرض البحر وهم يدركون مسبّقا أنّهم حتّى وإن كتبت لهم السلامة فهم لن يلقوا الترحاب لدى وصولهم إلى الضفّة المقابلة من المتوسّط.
أليست الطبقة السياسية التي عجزت عن إشاعة الأمل في النفوس من خلال خطاب معبّئ للطاقات، متبوع بالفعل والإنجاز الطرف الرئيسي المتسبّب في هذه الأوضاع المأساوية؟ أليست هي أيضا المسؤولة عن تعثّر مسار إنقاذ البلاد من مخاطر الانهيار الاقتصادي والتدهور الاجتماعي وعن استفحال الرّداءة السياسية واتّساع رقعة مستنقع السياسة الفاسدة؟
فلا غرو إذن أن ينظر شقّ واسع من التونسيين إلى السياسة والسياسيين بشيء من الازدراء والامتعاض، خاصّة وهم لا يلمسون منهم الاهتمام اللازم بمعاناتهم اليومية في مواجهة غلاء المعيشة وبمعالجة ما تشهده قطاعات حيوية كالصحّة والتعليم من أوضاع كارثية، في ظرفيّة اقتصادية حرجة بلغت فيها عديد الأرقام والمؤشّرات مستويات غير مسبوقة (نسبة التضخّم، المديونية، عجز الميزان التجاري، انزلاق الدينار، ارتفاع سعر برميل النفط...). وهذه المرحلة الدقيقة تدعوهم إلى التساؤل عن كيفية الخروج من هذا النّفق المظلم في ظلّ المعارك السياسية المحتدمة الدائرة حاليا والانقسام الحادّ في صفوف الفاعلين الأساسيين في الساحة الوطنية.
ولا خفاء أنّ هذه المعارك مضيعة للوقت واستنزاف لطاقات من الأجدى تسخيرها للمضيّ قدما في حلّ قضايا كبرى لم تعد تحتمل تأخيرا ولا إبطاء كإصلاح المؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية. هي، بلا ريب، معارك خاطئة في توقيت خاطئ، لأنّه بـات جليّا أنّ ما يغذّيها ويحرّكها حرص على التموقع والتقدّم أشواطا على الخصوم أو ببساطة إقصاء عدد منهم من السباق قبل استحقاقات 2019.
فهل يسمح وضع تونس بخوض معارك انتخابية سابقة لأوانها، هي مجلبة لمزيد من الفرقة والتناحر وعنصر زعزعة للاستقرار السياسي، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى مشروع وطني جامع يقودها إلى طريق الخلاص ويضمن مصالحة التونسي مع الشّأن العامّ؟
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق