الصحبي الوهايبي: الطّبـــع غــــلاّب
بخلت علينـا الحكـومة ببرنامـــج مكتوب، نقرأ فيه سياساتِها الاجتماعيّةَ والاقتصاديّة والثّقافيّة، فلمّا عزّ علينا الأمر، رأينا أن نقرأ في برجها؛ وعدد الأبراج اثنا عشر؛ ولكنّ «علماء» التّنجيم طلعوا علينا منذ 23 أكتوبـــر 2011 ببرج منسيّ، غفل عنه الأوّلون، وهو برج مَنْ لا برج له؛ مندسّ بين برج الميزان وبرج العقرب؛ متأرجح بين كفّة وكفّة، لا يستقرّ ولا يكنّ حتّى ترجح واحدة على أخرى؛ ومع أنّ التّكنولوجيا قد أراحتنا من الكفّتين واستبدلتهما بموازين إلكترونيّة لا تخطئ أبدا، فإنّ أهل الحلّ والرّبط عندنا مازالوا يحنّون إلى ميزان الكفّتين؛ يعدّلون ما بينهما، حَجَرٌ هنا، وحَجَرٌ هناك، كأنّهم يزنون الدّلاّع أو الفول على قارعة الطّريق...تقول الرّواية إنّ وزيرا من حكوماتنا العتيدة التي تتالت على البلد، عاد إلى لندن بعد طول غياب، فمضى يتمشّى في بهو محطّة الأرتال، منتظرا قطاره الذي لم يصل بعد؛ حتّى لمح أحد هذه الموازين العصريّة التي تدلّك على وزنك وشحمك ولحمك وعظمك وعِلْمك وأصلك وفصلك وبرجك وحزبك ودينك؛ فصعد وزيرنا على مصطبة الميزان وحشر القطعة النّقديّة المطلوبة في الثّقب المطلوب؛ فبرز له شريط من ورق، مكتوب بلغة عربيّة قحّة: «اسمك فلان الفلاني؛ وزير في حكومة قويّة عتيدة، لم تعرف البلاد لها مثيلا، وزنك مائتا رطل؛ جاهل بجغرافيا تونس، لا تعرف برّها ولا بحرها؛ برجك مندسّ ما بين العقرب والميزان، تنتظر قطار العاشرة وخمسين دقيقة إلى مانشستر، على الرّصيف رقم 23. سفرة ميمـونة أيّهــا السّيّد».
وداخ الوزير في أمره، ولم يصدّق، أهذا ميزان أم جان؟ فعاود وصعد على المصطبة، وحشر القطعة النّقديّة، فبرز له الشّريط ثانية: «اسمك هو، هو، فلان الفلاني، وزير في حكومة قويّة عتيدة، لم تعرف البلاد لها مثيلا، وزنك دائما مائتا رطل، ومازلت جاهلا بجغرافيا بلادك، ومازلت تنتظر قطار العاشرة وخمسين دقيقة إلى مانشستر، على الرّصيف رقم 23. سفرة ميمونة أيّها السّيّد». ولم يصدّق الوزير؛ وهذه مشكلة يعاني منها وزراء كثيرون، لا يؤمنون بعلم ولا تكنولوجيا، ولا يكاد يستقرّ في صدورهـــم يقين، حتّى يعصف به شكّ؛ ولكنّه يقين في غير موضع اليقين، وشكّ في غير موضع الشّكّ؛ وظلّ الوزير يعاند، يحشر القطعــة تلو القطعة؛ والميزان لا يحيد، ولا يُنقص ولا يزيد.
وقال الوزير في نفسه: «حسنا، أيّها الميزان الملعون، سنرى أيّنا أكثر حيلة»، ثمّ غاب برهة من الزّمن، وعاد متنكّرا في ثوب أبيض فضفاض وبشت مطرّز وعقال، فكأنّه أمير من أمراء العربان، وصعد إلى الميزان، فطلع له الشّريط: «لا فائدة في التّنكّر؛ أنت تونسيّ، حتّى لو خرجت من جلدك؛ اسمك هو، هو، فلان الفلاني، وزير في حكومة قويّة عتيدة، لم تعرف البلاد لها مثيلا، وزنك دائما مائتا رطل، ومازلت جاهلا بجغرافيا بلادك، تتحايل وتحسب نفسك أذكى وأدهى، حتّى ضيّعت وقتا ثمينا في ما لا يعني، وفاتك القطار إلى مانشستر، وقد غادر في وقته، في تمام العاشرة وخمسين دقيقة... آسف أيّها السّيّد؛ لا فائدة في الحيلة؛ ستبيت ليلتك في المحطّة... نعود إلى برج الحكومة، وقد خرجت من برج الميزان ومالت إلى برج العقرب...
يحكى أنّ عقربا، ثنى ذيله وأخفى شوكته ثمّ انتصب يتوسّل إلى ضفدع: «أيّها الضّفدع العزيز؛ لقد ذهب النّهار وأقبل اللّيل؛ وقد غمر ماء الفيضانات السّهل والجبل؛ وأنا أريد أن أعود إلى بيتي، ولا أعرف العوم، فهلاّ حملتني على ظهرك، حتّى أقطع إلى اليابسة؟»؛ فقال الضّفدع: «ولكنّك ستغدر بي وتلسعني»؛ فقال العقرب: «أيّها الضّفدع، أيّها الضّفدع العزيز؛ فكّر قليلا؛ كيف تقول هذا؟ وكيف ألسعك وأنا على ظهرك؟ هل تريد أن نغرق سويّا؟» ومازال به يراوده حتّى أذعن وأردف صاحبه على ظهره؛ فلمّا بلغا منتصف المجرى، غرس العقرب شوكته في ظهر رفيقه؛ فتمتم الضّفدع وقد سرى السّمّ في بدنه، وخارت قواه:»لماذا فعلت بي هذا؟ لماذا فعلت بنا هذا، وقد وعدتني أن نقطع الطّريق سويّا؟»؛ وردّ العقرب وهو يسلّ شوكته من لحم صاحبه، ويغرق معه:»والله لا أدري؛ ربّما تلك هي طبيعتي؛ أنت تعلم أنّ الطّبع غلاّب!».
الصحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق