ملامح الاِستعْراب الإيطالي
عرفت الدراسات الشرقية في إيطاليا خلال العقود الأخيرة نقلة بارزة، شملت رقعة المهتمّين بالدّراسات العربيّة، بعد أن كانت محصورة في دائرة ضيّقة مـــن المستشــرقين ورجال الدين الكاثـــوليك، ناهيــك عــــن مستجدّات في صلـــب المنهج والمقاربات. وفي ظلّ هذه التحوّلات باتت تتوزّع انشغالات المعنيـــين، في الرّاهـــن الحالي، على حقول أربعة أســـاسية: حقــــل الدراسات الأدبية، وحقـــل الأبحــاث التاريخية، وحقل القضايا السياسية، وحقـــل الإسلاميات. تأتّى ذلك في أعقاب مراجعــات حصلت داخل الاستشراق الغربي عامّة، لم تدّخر جهدا في انتقاد المنزع الأيديولوجي، مـــع تنبيه لتفــادي سقطات الاختزال والتّعميم. وهو ما يمكن الحديث معه عن تحوّل جار من عموم الاستشراق إلى تخصص الاستعراب، بالانكباب حصرا على قضايا الدّراسات العربية، التي بــاتت تُعرف في الوســـط الأكــــاديمي بالاستعـــراب «Arabismo»، ويُطلـــق على المختـــصّ في المجال مستعرباً «Arabista».
لا يخفى أنّ الدراسات العربيّـــة في إيطاليا هي دراسات وليدة تقاليد كَنَسية، تعــود أصولها إلى عهــد البـابـا كليــمنـــت الخــامس (1264 - 1314م) الــــذي حـــرص على تدريس اللغة العربية. ما وطّد الصلــة، منذ المنشأ، بين تلك الدراسات والتراث الكِتابي وأبقــاها رهينة القــراءة الكـــاثوليكية. وهو ما حدا بالمستعرِبين إلى النّزوع نحــو الاستقلال المنهــجي بقصد التخلّص من ضغط التّوظيف الأيديولوجي. روتْ لي المستعربة إيزابيلا كاميرا دافليتو، أنّها حين أزمعت الالتحاق بالمعهد البابوي للدراسات العربيّة والإسلامية، محجّ رهبانية الآباء البيض في روما، لدراسة العربيّة لم تحظ بالقبول بموجب عدم انتمائها إلى السّلك الكَنسي. فقد بقــي تدريـس العربيّة وتعليمها حكرا على المؤسّسات الكنسية حتّى مطلع الستينيات من القرن الماضي.
وتبعا للتطورات الحاصلة، شهدت الدّراسات العربيّة توسّعا ملحــوظا، يعود الفضل في ذلك إلى كوكبة نشيطة من الأساتذة مثل فرانشيسكا كوراو، وإيـــروس بلــديسيـــرا، ومونيكا روكو، وماريا أفينو، ووسيم دهمش، وسالفة الذّكر إيزابيلا كاميرا دافليتو، حتّى غدت حاضرة في كبريات الجامعات الإيطالية، في روما وميلانو وفلورنسا وبادوفا وجنوة وترييستي وكالياري وساساري ومِسّينا وكاتانيا وليتشي وريجيو كالابريا وفي مدن أخرى، وهو ما يرتقي أحيانا إلى أقسام جامعية مستقلّة، على غرار ما نجده في الأورِيِنْتالي في نـــابولي، وفي لاسابيينسا في روما، وفي كافوسكاري في البندقية؛ ولكن هذا لا يعني أنّ المنهج تخلّص من إرث الماضي ومن وطأة الرؤى الاستشراقية المثقَلة بالمركزية الغربية. فهذه الدّراسات ما فتئت تشكو من هنات في بيداغوجيا التدريس، فحيـــن يُدرَّس الأدب العــربي، أو يُدرَّس الفقه الإســلامي – تحــت مسمّى مـا يعــرف بالقــــانون الإســلامـي «Diritto Islamico»-، وتُدرَّس الوقــــائع السياسية للبلاد العربيّة وما شابهـــها، تُقدَّم جميعها باللغة الإيطالية ومن منظور غربي خالص. والأنكى أنّ العربية كلغة، تُدرَّس وتُقدَّم بالإيطالية أيضا، وهو منهج استشراقي، ما انفكّ يتعامل مع العربيّة على غرار ســائر اللغات الميّتة، مما يحدّ بشكل واسع من إلمام الدّارس ويخلّف في ذهنه تصوّرات مشوَّشة.
العربية لغة المستقبل
في ظــلّ هـــذه التحــولات الأكاديمية تحوز العربيّة وآدابها المرتبة الرابعة خلف الصينية واليابانية والكورية، من حيث أعداد الطلاب الذين يختارون الدّراسات الشرقية في المراكز الجامعية الكبرى في روما ونابولي والبندقية. وقد تخطّت العربيّة اللغــات المذكــورة على مدى سنتين متتاليتين في أعقـــاب أحداث الحادي عشـــر مـــن سبتمبر/أيلول. ومــن مظاهــر التّباين أنّ الطـالب الإيطالي يأتي مدفوعا بحماس عفوي لتعلّم العربيّة كونها لغة المستقبل، ليصطدم بأساتذة إيطاليين يدرّسونها ولا يتكلّمونها، وهذا واقع سائد في إيطاليا. حيث يقدّم كثيرون أنفسهم أنّهم مختصّون في الشــــؤون العربيّة والإسلامية؛ ولكن يعزّ أن تجد بينهم من يعبّر بلسان عربي مبين. أذكر زميلة جامعية إيطالية، شهرتها أطبقت الآفاق، استعانت بي يوما لكتابة رسالة إلى جهة عربية، فأوردتُ أمام اسمها صفة «الأستاذة»، فقالت لي منبّهة: اكتبْ للعرب «البروفيسورة» فالقوم يغويهم هذا اللقب.
وربّما ما يسبّـــب نفـــور هــؤلاء المتطلّعين للدّراسات العربيّة شيـــوع مقـــولة صعوبة العربيّة. ناهيك عن محدودية رعايتهم، لنقص التعاون والتنسيق مع البلدان العربيّة، ولا تجد هذه الشّريحة المتعطّشة للإلمام بحضارة العرب ولغتهم سندا ســـوى التعويل على إمكانياتها الذاتية، بخلاف ما تقدّمه من عون دول شرقية أخرى تروّج للغاتها وآدابها.
دراسات عربيّة تعوزها المرجعيّة العربيّة
علاوة تبقى المرجعيّة العربيّة في الدّراسات الإيطالية ضئيلة، ولا تفي بالغرض في الأبحاث الجامعية، في وقت يتمّ فيه الاشتغال على وقائع وأحداث ومفاهيم متعلّقة بالثّقافة العربيّة. حيث اعتماد التقليد السائد في الاستعراب على مرجعية غربية، تدعّمها نصوص مترجَمة قليلة (لم يُنقل إلى اللغة الإيطالية من الأعمال العربيّة عبر تاريخ اللغتين سوى 400 عمل). وإن يُفترَض أن تلعب الجامعة دورا طليعيا في تحرّر الدارس والباحث من الأحكام المسبّقة والادّعاءات المغرضـــة، فإنّ المنهج الجامعي يشكّل أحيانا سندا لترسيخ المغالطات؛ سيما وأنّ المرجعية التي يستقي منها الباحث رؤاه هي مرجعية غربية، لا تسمح له لغته العربية المكتسَبة بالولوج إلى مدوّنة الكتابة الأخرى، ولا الإحاطة بوقائع المجتمعات العربيّة.
وبرغم إرادة التحرّر من النسق الاستشراقي مع الاستعراب، ثمّة سيـــاج دغمائي يحول دون ذلك الانعتاق، يجــد دعــامة في المناخ السياسي السّائد. فما إن شـــرع الاستعراب، الحديث المنشأ، في تأسيس مقــاربة مستقلّة ومحايدة حتّى اصطدم باختبار منهجيّ تحت ضغط موجات الإرهاب المتواترة، ما أثار لديه حساسية أيديولوجية في التعاطي مع الشأن الثقافي العربي. حيث لم يكن الاهتمام الأكاديمي في العقدين الأخيرين علمياً محضاً، بل مدفــوعا بهــواجس أيديولوجية غــالبــا ما استبطنت حمولة سياسية (الإرهاب، الخشية من الإسلام، ضغط الهجرة)، وهو خلاف ما نجده في الأجواء المحيطة بالدراسات الصينية واليابانية والكورية والهندية.
منزَلقات في المسار
تتواجد في أقسام الدراسات الشرقية هرمية أكاديمية، على غرار ما نجده في غيرها من الأقسام، لا تستند إلى الكفاءة العلمية دائما؛ ولكن إلى سطوة «البارونات» (المتنفّذين)، يماثل انغلاقُ تلك الشلّة الطوقَ المافيوزي، وهي عاهة مستفحلة في الوسط الأكاديمي الإيطالي. وضمن تلك الأجواء الأكاديمية غالبا ما تمّ إلحاق أساتذة من أصول أجنبية بأقسام الدراسات الشرقية، مع حصرهم في مراتب دنيا دون تثبيت أو ترقية، بشكل يمكن نعته بالميز الأكاديمي النّاعم، وإن توفّرت الشّروط العلميـة لذلك وحملوا جنسيـــات البلـد المضيف.
جانب آخر في الشأن، على صلة بالدّراسات العربية يتعلّق بمجال الترجمة. حيث يسرّ الكاتب العربي أيّما سرور بنقل عمله إلى لغة أوروبية، ظنّا مع البعض أنّ باب العالمية يُفتح على مصــراعيه بمجرّد الترجمة. والحــال أنّ ترجمة النصّ العربي إلى الإيطالية محفوفة بجملة من المساوئ نوجزها في التّالي: أنّ النصّ المترجَم ولا سيما منه النصّ الإبداعي، الشعري أو الروائي، قد يوكل به إلى طلاّب مبتدئين أو مترجمين يفتقرون إلى متانة اللغة، ما جعل الكثير من النصوص المهمّة في العربية تتحوّل إلى نصوص مبتذلة في الإيطالية، وهي بالكاد تتخطّى طبعتها الأولى. حيث قلّة قليلة من دور النشر الكبرى تراهن على الكاتب العربي، إذ عادة ما تتولّى دور نشر صغرى نقل الأعمال العربية. دون أن نغفل كذلك عن أنّ عمليّة ترويج الكتاب في الغرب، ولا سيما الرواية، يأتي بفعل تضافر عوامل عدّة، تشتغل بمثابة العمل الرتيب المتسلسل (دعاية وترويج ولقاءات وحوارات وعروض وومضات إشهارية)، وهو ما لا يفوز به الكاتب العربي. لكن يبقى الجوّ العام السّائد في الترجمات العربيّة وهو البحث والانتقاء للغرائبي والمؤدلَج عند الترجمة، مع تفضيل ملحوظ للمنتوج المسيحي العربي، ليس بموجب ملامحـــه الإبــداعية بل لهوى يحفزه مخيال ديني مستحكم.
كثيرا ما أســأل طلاّبي الإيطاليين عـــن دواعي اختيارهم الدّراســـات العــربيّة، بقصد تفهّم عوامل تطوّر هـذه الدّراسات، بعيــدا عن الإجابات الجــاهزة في سوسيولوجيا الثقافة، فأظفر بإجابات متكرّرة يحوم حولها الطلاب: لأنّ العربيّة جميلة، ولأنّها أداة عمل مستقبلا، ولأن العالم العربي يغــري. فأقول في نفسي: ثقافة تختــزن قـــوّة جـذب وتستهوي الغير بشكل جارف، ماذا لو كانت قوّة الدّفع من أهلها بالحجم ذاته؟
عز الدّين عناية
- اكتب تعليق
- تعليق