عنـدما يفــوح عبـق النّســري من زغـــوان

حبا الله جهة زغوان بخيرات عدّة: طبيعية فاتنة ورصيد تراثي وأثري قيّم وسياحة متنوّعة وزراعة متميّزة جعلت لهذه الجهة ميزات خاصّة بها. وعلى مدى التاريخ عرفت زغوان بكونها خزّان المياه العذبة المغذّية للعاصمة عبر الحنايا التي توصلها إلى قرطاج وتلك المياه هي التي تروي إلى اليوم شجرة ذاع صيتها في تونس وخارجها وساهمت في شهرة المنطقة بفضل فوائدها المختلفة، إنها شجيرة النسري.

شجيرة النسـري أو النبتــة العـــزيزة كما يحلو لبعـــض أهــالي زغوان تسميتها، هي نبتة بيولوجية من صنف الزهور تنبت في الأراضي المتاخمة لجبل زغوان. لها زهرة  تتكوّن من خمس وريقات بيضاء وبتول لونها أصفر وهناك نوع آخر خارج تونس له زهرات وردية اللون لذلك يطلق عليها عندهم «وردة إكليل الجبل» وفي بلاد الشام تدعى النسرين.وفي زغوان يوجد خمسة أصناف من النسري حسب السيد حمدة غلاب رئيس جمعية النسري للأنشطة الثقافية وأشهرها صنفان: النسري الكلابي والنسري المسكي أو العربي ويزهر الأوّل قبل الثاني بحوالي أسبوع وزهرته أكبر وأكثر بياضا ونجده في الفواصل بين البساتين والضيعات  لكن النوع العربي هو الأفضل من حيــــث الرائحــة والأكثر تداولا في زغوان حسب السيد يوسف والي فلاح متخصّص في النسري في الجهة منذ 17 سنة ورث المهنة عن والده وهو يملك هكتارا ونصفا من شجيرة النسري بمعدل حوالي ألف شجيرة في الهكتار  ويشغّـل في الموسم الواحد حوالي 70 عاملة.

ويذكر المؤرّخون أنّ هذه النبتة هي أصيلة جنوب قارة آسيا ومنها انتقلت إلى بلاد الشام ثمّ إلى الأندلس. وتذكر الأسطورة أنّ الأندلسيّين الذّين استقرّوا بزغوان من ضمن من هاجر منهم إلى تونس منذ حوالي 4 قرون (1609-1610) اصطحبوا معهم هذه النّبتة لتتوارث الأجيال المتعاقبة زراعتها ويتلازم اسمها مع زغوان. لذلك فإنّ زراعة النسري وتقطيره هي صنعة توارثتها بعض العائلات المعروفة في زغـــوان  ممّا كـــان سببــا في استــمرارها وازدهارها. ومن بين العائلات التي حافظت على هذا الموروث  يذكر أهل زغوان عائلات والي وغزال وبالطاهر والدرويش وغيرهم. لذلك تقيم زغوان لهذه الشجيرة مهرجانا سنويّا.. والملاحظ أنّ نبتة النسري تمّت زراعتها في مناطق أخرى في البلاد التونسية وأعطت زهرتها البيضاء لكنّ رائحتها لم تصل إلى عبق عطر زهرة النّبتة المزروعة في زغوان وحسب السيد يوسف والي يعود ذلك إلى اختلاف المناخ ونوعية التربة والماء بين زغوان والمناطق الأخرى بما يعني أنّ زغوان هي البيئة الحيوية الرئيسية لزهرة النسري.

النّسري، النّبتة الملكية

يزهر النسري، المعروف بالنّبتة الملكية، في أواخر شهر أفريل وبداية شهر ماي من كلّ سنة ويبلغ الإنتاج أوجه في منتصف شهر ماي فتنتشر في بساتين زغوان رائحة زهرة النسرين الزكية.

ويصفها السيد يوسف والي بأنّها نبتة حسّاسة تحبّ الناشطين والمبكرين، لذلك تفرض أن يتمّ قطف زهرتها في ساعات الفجر الأولى لمن يريد الفوز برائحتها الزكية. ينطلق القطف حسب السيد يوسف منذ الواحدة أو الثانية صباحا وينتهي في حدود الثامنة إلى التاسعة صباحا وسبب ذلك يعود إلى أنّ زهرة النسري تؤثّر فيها أشعة الشمس فتذبل بسرعة ويصبــح لونهـــا باهـتا وتبيــضّ بتولها وتضعـــف قدرتها على تــوفير العطر الزكي عند التقطير ومن هنا توصف بالزهرة الخجولة من لقاء أشعّة الشمس وتتفادي مواجهة حرارتها. ويتمّ تقطير الزهر المجمّع في نفس اليوم حتّى لا يفقد ماء النسري قيمته ورائحته وحسب المختصّين يمكن المحافظة على الزهرة في الثلاجة لمدّة يومين أو ثــلاثة لكن هــذا يـــؤثّر على جودة رائحة مـــاء النسري.

منشّط للحركة الاقتصادية والثقافية

ولنبتة النسري دور هام في تنشيط الحركة الاقتصـاديــة والثقـــافية في زغــوان فتشهد الجهة نشاطا مكثّفا في أسواقها بسبب بيع وشراء زهرة النسري. واحتفاء بهذه الشجرة أحدث أهل الجهة جمعية «النسري للأنشطة الثقافية» تشرف على تنظيم مهرجان سنوي للنسري يتزامن مع موسم قطف زهرة النسري وتقطيرها خلال شهر ماي. ويبلغ المهرجان هذا العام دورته 35 وبهذه المناسبة تقام عروض ثقافية  وفنية وسياحية وندوات علمية وبرامج تنشيطية وورشات تقطير للنسري. ويكون هذا المهرجان مناسبة لإبراز دور النسري في الحركة الاقتصادية والثقافية في الجهة.

كما يساهم ماء النسري في دعم العلاقات الاجتماعية بين الأهـــالي. فنجد بعضهم يتعاونون في جمعه وتقطيره باستعمال القطارات التقليدية. ويصنّف ماء النسري ضمن الهدايا القيّمة في الجهة. وكذلك تعطّر به المشروبات التي تقدّم للضيوف إكراما لهم مثل القهوة والشاي والماء أيضا.

استعمالاته وفوائده

عـــرف مـاء النسـري صاحب العطر الأخّاذ بفوائده الغذائيــة واستعمــالاته العطرية والطبية. ففي المجـــال الغذائي يستعمل ماء النسري في إعداد الحلويّات عموما لكنه ساهم في شهرة كعك الورقة الزغواني ذي الأصل الأندلسي الذي يخلط به ماء النسري، هذا الكعك الذي تذكر الأسطورة أنّه الوسيلة التي استعملتها النساء الأندلسيات لإخفاء حليَهن وتهريبه معهنّ إلى تونس بعد هروب المسلمين من ظلم المسيحيين عند سقوط الأندلس وقــد ساعــدهم في ذلك حســـب الأسطورة أيضا كبر حجم الكعك آنذاك.

وكانت عائلتا بالطاهـــر والدرويش العائلات الأولى التي صنعت كعك الورقة بالنسري حســب ما ذكرت لنا إحدى المتخصّصات في صناعة الكعك. ويستعمل ماء النسري في العطور وفي مواد التجميل وخاصّة لتعهّد البشرة لدى المرأة كما يعطّر به الصابون. وبخصوص استعمالات ماء زهرة النسري طبيا فالسائد لدى المجتمع الزغواني أنّه مفيد في أمراض القلب والشرايين فهو ينظّم دقات القلب والدورة الدموية وفي أمراض الجهاز الهضمي لكن هناك من يستعمله كدهان لروماتيزم المفاصل ولمعالجة مرض النّقرس والسكري وكمنشّط للجسم ويساعد على التركيز في الدراسة ويستعمل أيضا لمعالجة داء الكلب. ويشير السيد حمدة غلاب إلى أن هناك شركة سويسرية لصناعة الأدوية استعملت ثمرة النسري في تركيبة دواء منشّط للقلب.

وبسبب تلك الفوائد يكثر الطلب من الخارج على مـاء النسري لكــن الكميات المنتجة لا تكفي إلاّ للاستعمال المحلي. ويشير السيد يوسف بأنّه جاءته طلبات للتصدير لمجموعة «شانال» وطلبات أخرى من اليابان لكن الكميات المطلوبة غير متوفّرة.

إثراء البحث العلمي

لقد أثرت نبتة النسري الحياة العلمية في زغوان فكانت البحوث العلمية حولها محورا أساسيا في الندوات العلمية التي ينظّمها مهرجان النسري  وهي موضوع بعض البحوث العلمية بالمدرسة العليا للفلاحة بمقرن وأشار السيد سليم الروز أستاذ محاضر بالمدرسة إلى أنّ شجيرة النسري ستكون مهدّدة بالانقراض في صورة عدم الاعتناء بها لذلك وفي إطار مشروع رئاسي انطلق سنة 2004 كلفت مدرسة مقرن بالموضوع فتولّى فريق من الباحثين جمع التنوع البيولوجي لزهرة النسري في كامل الجمهورية ودرس الفريق خصوصيّاتها في عدّة مناطق مثـل زغــوان ونابل وبنزرت وأريانة وعيـن دراهم وصفاقس.. وتمّ وضعها في حديقة التنوع البيولوجي الخاصّة بشجيرة النسري في المدرسة لحمايتها خارج محيطها الطبيعي ولدراستها.

وقد صدرت بعض البحوث حول الخاصية العلاجية لزهرة النسري . كما يعمل المهتّمون بشجيرة النسري على البحث في أساليب تطوير المنظومة  الزراعية لهذه النّبتة علميا.

خــــالد الشّابي