عودة المشير واستحقاقات المرحلة في ليبيا
عندما وطأت أقدامه مطار بنينا- بنغازي عائدا من مصر ، وضع المشير حفتر حدًّا لكلّ التأويلات والأكاذيب التي تعمّد طيف من أعدائه الترويج لها في وسائل إعلام محلية ودولية، إضافة إلى دوائر استخباراتية إقليمية. وقد ذهب البعض إلى إعلان وفاة القائد العام للجيش العربي الليبي في أحد المستشفيات الباريسية بعد الادّعاء أنّه أصيب بجلطة دماغية سبّبت له موتا سريريا. بناء على هذه المعطيات، انطلقت التحاليل التي أحصت عدد خلفاء المشير وارتباطاتهم الإقليمية وولاءاتهم العقائدية وتموقعهم القبلي. أمّا المجموعات المرتبطة بالآلة الإعلامية للإسلام السياسي المسلّح فقد روَّجت لانهيارات دراماتيكية داخل الوحدات العسكرية في بنغازي وفزّان وفرار الكتائب التابعة للجيش والمرابطة على مداخل مدينة درنة المحاصرة، في حين أفتى الشيخ الصادق الغرياني بتحريم الصلاة على جثمان المشير حفتر لخروجه عن الملّة ومحاربته لمن أسماهم المجاهدين.
في حوله فقد كانت إشارة موجّهة إلى كلّ من شكّك في مدى تماسك الجيش في حال غياب قائده وهو ما يعبّر عن مدى انخراط كلّ المؤسسة في عقيدة دفاعية وطنية ونظرة دستورية تعلي قيم الانضباط على الولاء الشخصي أو العصبيات القبلية. ولم يفت حفتر الإشارة الواضحة والجليّة إلى انحرافات شهدتها المنطقة الشرقية وأساسا سعي المستشار عقيلة صالح إلى الالتحاق بالحلّ السياسي والاجتماع بالسيد خالد المشري، الرئيس المنتخب حديثا على رأس المجلس الأعلى للدولة والمحسوب على تيّار الإخوان الذي يناصب العداء الشديد للجيش. العديد من أبناء التيار الوطني القريبين من دوائر الجيش العربي الليبي انتقدوا اللقاء الذي جمع الرجلين في المغرب الأقصى وندّدوا بطابعه الانتهازي، باعتباره يتنزّل في إطار التحضير لخلافة المشير حفتر. أمّا الرسالة الأهمّ في الاستقبال فقد وجّهت إلى من تبقّى من المجاميع الإرهابيّة في درنة، حيث أعاد حفتر على مسامع الحاضرين ترتيبه للأولويات القادمة والتي وضع على رأسها إنهاء حالة الترقّب والمساومات والترتيبات القبلية والمرور مباشرة إلى اقتحام المعقل الأخير للفصائل الإرهابية التي تتحصّن داخله . وفِي هذا السياق ذكر المشير أنّ كلّ مكوّنات الجيش والتي استقدمت من جميع مناطق ليبيا تقف اليوم على مشارف درنة وتتأهّب لإخراج الكتائب المسلّحة المنضوية تحت قيادة «مجلس شورى مجاهدي درنة» المصنّف إرهابيّا.
الاستحقاقات الانتخابية ودور القوى الإقليمية
إنّ المعركة اليوم في ليبيا، في ظلّ الرّكود السياسي بفعل التّجميد المعتمد للمسار الانتقالي من طرف المبعوث الأممي السيد غسان سلامة وبحث القوى الإقليمية عن مواقع نفوذ جديدة من بين الميليشيات والوجاهات القبلية، تكتسي أبعادا جديدة بعد عودة المشير وتصاعد منطق الحسم العسكري كرافعة لحلحلة الأوضاع المتردّية على كلّ المستويات المؤسّساتية والأمنية والاجتماعية. لقد تحوّل تأخير المواعيد الانتخابية في الجارة ليبيا بدعوى الانتهاء من صياغة الدستور أو لمزيد التّوافق حول بعض بنود الاتّفاق السياسي المنتهي الصلوحية أو لحشد المزيد من الدّعم الإقليمي لتسهيل إنهاء المرحلة الانتقالية إلى قناعة لدى جزء كبير من الشعب والفاعلين المحليّين أنّ الطبقة السياسية المفروضة على البلاد من الدّوائر الدولية تسعى بشتّى السّبل إلى تعطيل الاحتكام إلى الانتخابات وتأييد الفوضى المؤسساتية لأنّها تمثّل ريعا سياسيا تتمعّش منه لدى الأوساط الغربية خصوصا وعلى رأسها الشركات العملاقة الناشطة في الحقول النفطية وبعض أجهزة المراقبة الأوروبية المنخرطة في مقاومة جرائم الاتجار بالبشر والهجرة السرية. فبالعودة إلى الإقبال الكثيف للمواطنين على التسجيل في لوائح الانتخابات والذي شهدته ليبيا في الأشهر الأخيرة حيث تجاوزت الأعداد عتبة الثلاثة ملايين مسجّل مقارنة بمليون ومائتي ألف فقط في سنة 2014، يمكن الجزم بأنّ المواطن الليبي الذي يعاني من تبعات الأزمة الاقتصادية ومن انعدام الأمن ومن استباحة حرمة مجاله الوطني وثرواته، بدأ يتلمّس طريق خلاص وطنه عبر الاحتكام إلى صندوق اقتراع كخطوة أولى وأصلية لإعادة بناء مؤسسات تحظى بشرعية وطنية كاملة بعيدا تدخّلات القوى الإقليمية ودوائر الأمم المتحدة.
من وطن إلى ساحة صراعات إقليمية وحروب متنقّلة
هذه القناعة التي ترسّخت في تمثّلات المواطن الليبي عموما هي التي جعلته يؤمن بأنّ الجيش العربي بقيادة المشير حفتر، على هنّاته وبغضّ النّظر على العديد من انحرافات بعض قيادييه الميدانيين، يبقى مؤسّسة موحّدة ومجسّدة لما تبقّى من مشروع الدولة التي تتنازعها لا فقط الميليشيات الفوضاوية والمجاميع الإرهابية وطغم الفساد المالي والسياسي ولكن أيضا العصابات المسلّحة التي تحكم بقوة النار سيطرتها على مناطق شاسعة من فزّان بعد أن لجأت إليها هربا من قمع الأنظمة في دول الجوار كالسودان وتشاد ومالي. لقد تحوّلت بقاع شاسعة في ربيانة ومرزق وغات والكفرة والعوينات من الجنوب الليبي إلى ملاذ آمن للمعارضات المسلحة التي تحارب أنظمة الحكم الشمولية في الخرطوم وانجامينا وتلتحم بالإثنيات والقبائل في فزّان، منخرطة في الصراعات الداخلية الليبية. هذا الوضع خلق وقائع جديدة على الأرض وأسهم في إعادة إشعال جذوة القتال بين الفرقاء المحليين واستجلب، بفعل التحالفات القبلية الاصطفافات السياسية أو الجيوستراتيجية، معارك غربية عن البلاد وجيوشا من المرتزقة أو العصابات، الشيء الذي أسهم في دفع مجموعات كبيرة من الليبيين إلى مغادرة بلداتهم وأراضيهم واللجوء إلى المدن الكبرى في ظروف قاسية.
إعادة الاعمار وتعثر الحلّ السياسي
إن التشظّي المجالي والاجتماعي الذي وصلته ليبيا ينبئ اليوم بالأسوإ في ظلّ انعدام حلول جامعة ترسم سبل الخروج من حالة اللادولة. غير أنّ الصورة، وعلى قتامتها لا تختزل كلّ الواقع. ففي المنطقة الشرقية توصل الفرقاء إلى توحيد الصفوف والانتظام خلف الجيش العربي الليبي وخاضوا معارك دموية ضدّ الإرهاب وأدوات التدخل الإقليمي. هذا الاصطفاف مكّن المواطنين في إقليم برقة من الانصراف إلى إعادة الاعمار وبعث المشاريع وإصلاح المنظومات الصحية والتربوية والجامعية بالاعتماد على جزء مقتطع من عائدات النفط الذي بسط الجيش سيطرته على منابعه وموانئ تصديره. هذا الوضع جعل من الشرق اللّيبي إقليما يقترب إلى حدّ ما من الحالة الطبيعية لأيّ بلد ينعم بمدخرات ضخمة من النفط. وقد أسهم الجيش في هذه الانتعاشة النسبية بالرغم ممّا يعاب على قيادته من تدخل في تركيبة المجالس البلدية المنتخبة أو في التبادل التجاري مع دول المنطقة.
ففي حين تبقى العديد من المدن والأحياء التي تضرّرت من الحرب الأهلية والعملية العسكرية الأطلسية دون إعمار أو ترميم في مجمل إقليم طرابلس بفعل التسيب الأمني وسطوة الميليشيات، افتتحت بلدية بنغازي مؤتمرا ومعرضا دوليين لإعادة البناء والتجهيز الحضري والمجالي في مستهلّ شهر ماي 2018 معلنة بذلك فتح أكبر ورشة إصلاح وإعمار في الإقليم بكلفة تقارب الثمانين مليار دولار. إنّ التمايز الشديد، إن لم نقل التعارض البيّن الذي يميز المشهدين في الغرب وفي الشرق الليبيين، ينعكس سياسيا لدى أوسع الأوساط الشعبية تذمّرا من عدم قدرة حكومة السّراج في طرابلس على رفع المعانات عن الناس والبدء في إصلاح الأوضاع التي لم تعد تُحتمل جرّاء التفقير والتهميش واللّامبالاة إزاء تردّي الحالة الاجتماعية لطيف مهمّ من السكان خاصّة في هذا الجزء من ليبيا على رغم العيش في ظلّ مجتمع ريعي. فباستثناء الموقف العقائدي العدائي لمؤسسة الجيش أصبحت الآراء في المنطقة الغربية، وفي طرابلس خصوصا تعتبر تجربة إقليم برقة في إعادة الإعمار وتنشيط الدورة الاقتصادية وتوفير الأمن والتوحّد خلف مؤسسة ذات شرعية ومصداقية كالجيش تمشيا إيجابيا يعتمد على سواعد محلية وإرادة حرّة بعيدا عن تدخّل القوى الاقليمية المتربّصة بثروات ليبيا.
معركة درنة وبوابة الحلّ
وإن مثّلت عودة المشير خليفة حفتر إلى ليبيا صدمة للدوائر الاستخباراتية الإقليمية وأذرعها الإعلامية المحلية فإنها أشّرت إلى بدء مرحلة جديدة عناوينها الأساسية إنهاء مرحلة التسويف وتأجيل الاستحقاقات الانتخابية والمرور إلى عهد التأسيس لشرعية صلبة تعتمد الصوت المواطني والانطلاق في إعادة الإعمار كمدخل لتجاوز ندوب الحروب الأهلية والعدوان الأطلسي وأخيرا الدعوة إلى إنهاء الانفلات الإرهابي في مدينة درنة، العاصمة الثقافية والرمزية لإقليم برقة. إلاّ أنّ المرور إلى مرحلة إعادة الإعمار والتأسيس النهائي للدولة يمرّ حتما عبر خوض معارك شاقّة عسكريا وسياسيا لكثرة المنتفعين في ليبيا من حالة الفوضى وانتشار الإرهاب وتفشّي الفساد وهو ما يؤكد صعوبة الفترة القادمة ودقّتها وفداحة الثمن الذي وجب دفعه للقطع مع اللادولة. ولأنّ المعركة العسكرية ستكون المدخل الأول نحو حلحلة الاوضاع ورسم معالم الأفق السياسي فإنّ المشير حفتر قد يكون أهمّ اللاعبين لحيثيته داخل مؤسسة الجيش ولتطلّعه الذي لا يخفيه إلى الترشح إلى أعلى المناصب إذا ما قُدّر للمسار الانتقالي أن يمرّ عبر خانة الانتخابات الرئاسية.
الدكتور رافع الطبيب
- اكتب تعليق
- تعليق