القمّة العربية التّاسعة والعشرون بالظهران القــمّـــة »النــازحـة«
حين بحثت للقمّة العربية التّاسعة والعشرين المنعقدة في 15 أفريل 2018 بالظهران، عن صفة تميّزها عن القمم السّابقة، لم أجد أفضل من وصفها بالقمّة «النّازحة»... فلقد كانت بحقّ قمّة النّزوح المتكرّر والمزدوج، زمانا ومكانا، على حدّ سواء...
فمن حيث الزمان، كان من المقرّر أن تنعقد في 20 مارس 2018، غير أنّ الرياض قرّرت تأجيلها إلى 15 أفريل 2018 بذريعة تزامن تاريخ انعقادها مع الانتخابات الرئاسية المصرية التي جرت بعد أحد عشر يوما من التاريخ المقرّر أي في 26 مارس 2018...
وفي الحقيقة، فإنّ تاريخ 20 مارس 2018 تزامن مع اللقاء الذي عقده الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، في نفس اليوم، مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بواشنطن.
أما مــن حـيـث المكـان، فقد نزحـت القمّة مرّتين، مــــرّة أولى مـــن دولــة إلى دولـــة أخــرى، حيث أنّها انعقدت في المملكة العربية السعودية بدلا من دولة الإمارات العربية المتحدة، ومرّة ثانية من مدينة إلى مدينة أخرى، حيث أنّها كان من المفترض أن تنعقد في الرياض، لكنّها انعقدت في الظهران...
والغريب أنّها انتهت بنزوح مكانيّ آخر فرضته على القمّة المقبلة حيث أنّها نزحت من منطقة الى منطقة، وبالتّحديد من الخليج حيث اعتذرت مملكة البحرين عن استضافتها، إلى المغرب العربي حيث ستتولّى تونس احتضانها سنة 2019...
ويعكس هذا النّزوح المتكرّر والمزدوج على صعيدي الزمان والمكان حالة الارتباك التي تعيشها المنطقة العربية عموما، ومنطقة الخليج خصوصا في هذه المرحلة العسيرة التي تَمَزَّقَ فيها شملُ العرب وتَشَتَّتَ صفُّهُم بشتّى أصناف النّزاعات والصّراعات الدّاخلية والبينية...وليس أدلّ على ذلـــك من أنّ ثلاثة من سبعة قــــادة لم يحضروا القمّة هم من قادة دول مجلس التعاون الخليجي (يتعلق الأمــر بـدولة الامارات العربية المتحدة وسلطنة عمان ودولة قطر التي مثّلها مندوبها لدى جامعة الدول العربية)...
وقد كــان مــن الطبيعـــي أن ينعكس هذا النّزوح المتكرّر والمزدوج على الموضوعات التي تطرقت اليها القمّة، والقــرارات التي اتخذتها، وخاصّة على البيان الذي أصدرته في خاتمة أشغالها...
فلقد بادر القادة العرب في مقدّمة هذا البيان إلى تأثيم «الربيع العربي» تأثيما كلّيا وقطعيّا، حيث حمّلوه المسؤولية عن حالة الإحباط التي تعيشها الشعوب العربية بسبب ما جرّه عليها، حسب تعبيرهم، من «ويلات وما تبعه من أحداث وتحوّلات كان لها الأثر البالغ في إنهاك جسد الأمة الضعيف والنّأي بها عن التطلّع لمستقبل مشرق»...
وقد برّؤوا بذلك أنفسهم من أيّ مسؤولية عن الأدوار التي لعبوها أو على الأقلّ لعبها بعضهم في إجهاض الآمال التي داعبت الشعوب العربية لحظة ميلاد هذا الربيع، وفي تحويل ما تولّد عنه من أحلام إلى كوابيس مرعبة.
والغريب في الأمر أنّهم أكّدوا في نفس المقدّمة على أنّ الأمّة العربية «أدركت ما يحاك ضدّها من مخطّطات تهدف إلى التدخّل في شؤونها الداخلية وزعزعة أمنهـا والتحكم في مصيرهــــا» وأن هــذا الأمر «يجعلها أكثر توحّدا وتكاتفا وعزما على بناء غد أفضل يسهم في تحقّق آمال شعوبها وتطلّعاتها دون تدخّل دوّل وأطراف خارجية في شؤون المنطقة»... غير أنّنا عندما نقرأ البنود التسعة والعشرين التي تضمّنها البيان، نجدها متناقضة مع هذا التأكيد، ونصادف فيها «نزوحا» فعليا عن الحقّ والمنطق لعلّ من أبرز تمظهراته ما يلي:
1 - قمّة «القدس» اسم لكن بلا مسمًّى: بالـرّغــم مــن أنّ الملك سلـمـان بن عبد العـزيز نـزل عند رغبة محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية فأطلق على القمّة اسم «قمّة القدس»، وبالرغم من أنّ البيان الصادر عنها خصّص للقدس والقضية الفلسطينية البنود السبعة الأولى من بنوده التسعة والعشرين، فإنّ محتوى هذه البنود جاء «باهتا شاحبا»، ولم يكن في مستوى التحديات التي تعرفها وستعرفها القدس بالتزامن مع صــدور هذا العـــدد الجــديد من مجلة «ليدرز العـــربية» في منتصف شهر ماي الجاري، فقد استخــدم القادة العـرب لغـة بالغـة «النعومــة» في التطرّق إلى القرار الأمريكي بشــأن الاعــتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولم يجرؤوا حتّى على التّنديد بهذا القرار أو إدانته بل اكتفوا بالتّأكيد على بطلانه وعدم شرعيته، وعلى رفضهم القاطع الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكأن هذا الرّفض، حتّى وإن كان قاطعا، سيغيّر من الأمر الواقع شيئا، لا سيما وأنّهم أردفوا ذلك بأن شدّدوا على أنّ السلام الشامل والدائم في الشرق الأوسط هو خيار العرب الاستراتيجي، وبأن جدّدوا التزامهم بمبادرة السلام العربية التي يعلمون علم اليقين أنها ولدت ميّتة، حيث أنّ أرييل شارون رفضها في نفس اللحظة التي تمّ فيها الإعلان عنها في قمة بيروت سنة 2002.
وحتّى تحذيرهم من أنّ اتّخاذ أيّ إجراءات من شأنها تغيير الصفة القانونية والسياسية الراهنة للقدس «سيؤدّي إلى تداعيات مؤثّرة على الشرق الأوسط بأكمله» جاء مائعا وضبابيا، وقـد زاد مـن ميوعته وضبابيته أنّهم لا يــــزالون يعوّلون على تطبيق قرارات الجمعية العـامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومخرجات مؤتمر باريس للسلام التي لا تسمن ولا تغني من جوع، كما إنّهم واصلوا التعامل مع الخطوات الاسرائيلية آحـــادية الجـــانب التي تهـــدف إلى تغيير الحقائق على الأرض وتقويض حلّ الدولتين، بنفــس القـدر مـن «النعومة» حيث أنّهم جدّدوا وعد إسرائيل بـ»الأمن والقبول والسلام» مع جميع الدول العربية، إذا قبلت مبادرة السلام العربية...
2 - إيران العدو المستقبلي الأول والأكبر: على عكس «النعومة» التي خاطب بها القادة العرب الولايات المتحدة وإسرائيل اتّسمت اللغة التي خاطبوا بها إيران بـ»الخشونة»، ويبدو أنّ القمة ادّخرت الألفاظ والعبارات التي كان يفترض أن توجّهها إلى واشنطن وتل أبيب، لكي تسمعها لإيران «الشقيقة» في الدين التي لا تفصلها عن الظهران سوى 250 كلم...
ولقد أدان القادة العرب، تحـت عنـــوان «التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية»، «المحاولات العدوانية الراميـــة الى زعزعة الأمن وبثّ النّعرات الطّائفيـــة وتأجيـــج الصّراعات المـــذهبية لما تمثّله من انتهاك لمبادئ حســن الجــوار ولقواعد العلاقات الدولية وكذلك لمبـادئ القانون الدولي ولميثاق منظمة الأمم المتحدة»، وأعربوا عن التزامهم «بتهيئة الوسائل الممكنة وتكريس كافّة الجهود اللازمة للقضاء على العصابات الإرهابية وهزيمة الإرهابيين في جميع ميادين المواجهة العسكرية والأمنية والفكرية، والاستمرار في محاربة الإرهاب وإزالة أسبـابه والقضاء على داعميـه ومنظّميه وممـوّليــه في الداخــل والخارج كإيران وأذرعها في منطقة الشــرق الأوســط وإفـــريقــيا، مـــؤمّلين وقـــوف العـــالم الحرّ لمساندتهم ودعمهم لننعم جميعاً بالسلام والأمن والنّماء».
وفي هذا السياق، أدانوا بأشدّ العبارات ما تعرّضت له المملكة العربية السعودية من استهداف لأمنها عبر إطلاق ميليشيات الحوثي الإرهابية المدعومة مـــن إيران 106 صواريخ باليستية على مكّة المكرمة والرياض وعـــدد مـــن مدن المملكة، كما أكّدوا دعمهــــم ومسانــــدتهم للمملكة العربية السعودية ومملكة البحرين في كلّ ما تتّخذانه من إجراءات لحماية أمنهما ومقدّراتهما من عبث التدخل الخارجي وأياديه الآثمة، وطالبوا المجتمع الدولي بضرورة تشديد العقـــوبات عــلى إيـــران وميليشيـــاتها ومنعها من دعـــم الجمــاعات الإرهــابية ومن تزويـــد ميليشيات الحـــوثي الإرهـابية بالصّواريخ الباليستية التي يتمّ توجيهها من اليمن نحو المـــدن السعودية...
3 - التبريــــر الضمنــي للعــدوان الثـــلاثي على سوريا: في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يعمل العرب على عودة سوريا إلى حضيرة جامعة الدول العربية، لم تكتف قمّة الظهران بالإصرار على مواصلة تجميد عضويتها فيها، وإنّما حرصت في بيانها على «إدانة واستنكار التصعيد العسكري المكثّف» الذي كانت الغوطة الشرقية تشهده إبّان انعقادها، كما حرصت على إدانة «الهجوم الكيماوي المروّع الذى تعرّضت له مدينـــة دوما بالغوطة الشرقية في 07 أفريل 2018»، بل إنّها عادت في القرار الذي خصّصته لتطوّرات الأزمــة السوريـــة إلى «إدانة واستنكــار القصــف الوحشي بالأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً الذى تعرضـــت له بلدة خـــان شيخــون في ريف إدلب في 04 أفريل 2017، والإعراب عـن القلـق البـالغ إزاء المعلومات التي تشير إلى استخـدام الأسلحـة الكيميائية في عدد آخر من المناطق والمدن السورية»...
وقد طالب القادة العرب المجتمع الدولي بالوقوف ضدّ هذه الممارسات تحقيقاً للعدالة وتطبيقاً للقانون الدولي الإنساني وتلبية لنداء الضّمير الحيّ في العالم الذي يرفض القتل والعنف والإبادة الجماعية واستخدام الاسلحة المحرّمة، وكأنهم أرادوا بهذا الموقف لا فقط الهروب من إدانة العدوان الثلاثي الذي تعرّضت له سوريا، عشيّة انعقاد القمّة، خارج أيّ شرعيّة دوليّة، وقبــل ثبــوت تهمــة استخــدام السلاح الكيميائي عليها، بل تبريـــره ضمـنيا، وربّمــا التّرحيب به لولا بقية باقية من حياء...
4 - الاهتـــمـــام بأَعـــْرَاضِ الحـــرب في اليمـــن وعليه، والإِعْـــرَاضُ عن أصل الدّاء: بدلا من العمل على إنهاء الحرب العبثية الدّائرة في اليمن وعليه منذ أكثر من ثلاث سنوات ووضع حدّ لما تسبّبت فيه من مآس، واصل القادة العرب «إخفاء رؤوسهم في الرمـــال»، فاكّدوا على «مســـاندة جهــود التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن»... بل إنّهم، في موقف «سريالي» بحقّ، ثمّنوا مبادرات إعادة الإعمار ووقوف دول التحالف إلى جــانب الشعـــب اليمني الشّقيق من خـلال ما تقدّمـه مــن مساعدات إغاثية وعلاجية وتنموية، وكأنّ هذه الدول بريئة من الدّمار الذي يعاد إعماره، ومن عذابات الجرحى والجوعى والمشرّدين الذين تجري إغاثتهم...
5 - تجاهل الأزمة مع دولة قطر: من أغرب ما عرفته مجريات قمّة الظهران أنّها غيّبت الأزمة التي نشبت في 5 جوان 2017 بين الرباعي الخليجي المصري (المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر) وبين دولة قطر، والتي أدّت فيما أدّت اليه إلى اقتراب الدوحة من إيران أكثر فأكثر، وإلى تعزيز وجود تركيا العسكري في الخليج بعد أن كان تدخّلها مقتصرا على جواريها العراقي والسوري...
ولأنّ القادة العرب أكّدوا حرصهم على بناء علاقات طبيعية تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون الإيجابي مع دول الجوار العربي بما يكفل إرساء دعائم الأمن والسلام والاستقرار ودفع عجلة التنمية في المنطقة، فإنّه لا مناص من التّساؤل عمّا إذا كان القادة العرب لا يشعرون بتناقض موقفهم حين يغضّون النّظر عن وجود تركيا العسكري المعزَّز في قطر، وفي نفس الوقت يطالبونها، وهي التي كانت حتّى الأمس القريب أكبر حلفاء العرب المعادين لسوريا ونظامها، بسحب قوّاتها من منطقة عفرين السورية، كما يعيدون مطالبتها بسحب قوّاتها المتوغّلة في الأراضي العراقية منذ سنوات؟..
تلك هـي جملــة مـن تناقضـــات القمـــّة العـربية بالظهــران، ومــــن «سريــاليات» مــا جــاء في بيــانهــا وبعــض قراراتها مــن مواقف، والمؤمّل أن يســـاعد «نزوح» القمّة إلى تـونس، وإلى منطقة المغـرب العـــربي التي عـرفت عبر أطـــوار تاريخها الطويل بنزعتها العقلانية، على إضفاء مسحة من المنطق على رؤية الأمور وعلى طريقـة مقـــاربتها بــما يسهم في إخـراج المنطقة العربية من حالة الضياع الخطيرة التي تردّت فيها.
ولنا، بإذن الله، عودة الى مستلزمات نجاح هذه القمّة عندما يحين الوقت...
محمّد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق