نحن والبحر: هل بالإمكان أن نكون خير خلف لخير سلف؟
سنة 465 قبل الميلاد، أي قبل ما يناهز خمسمائة وألفي سنة، قام "جدنا" حانون (ملك قرطاج فيما بين 480 و440 قبل الميلاد) برحلة بحرية تاريخية إلى سواحل إفريقيا ما وراء أعمدة هرقل، من أجل تأسيس مراكز تجارية في الأصقاع الافريقية الواقعة على المحيط الأطلسي، تمكّن مملكته من توسيع مجال تجارتها الخارجية، بترويج منتجاتها في هذه الأصقاع وبالتزود منها بما تتوفر عليه من المواد الخام التي تحتاجها في تنمية حِرَفِها... وذلك فضلا عناكتشاف طرق بحرية جديدة تمكن من اختصار الوقت والمسافات بين المراحل والمرافئ.
وخلال هذه الرحلة التي قادته حتى خليج غينيا كان أسطولالملك حانون يتكون من ستين سفينة، لكل واحدة منها خمسون مجدافا، وقد رافقه فيها، حسب بعض المصادر، حوالي ثلاثين ألف رجل وامرأة، مع ما يحتاجونه من مؤن وتجهيزات، وبضائع مختلفة.
وقد دلّت هذه الرحلة على ما كان أجدادنا القرطاجنيون واللوبيون يتمتعون به من مهارات عالية في بناء السفن التي استطاعوا بفضلها السيطرة على البحار طيلة العديد من القرون، وعلى ما كانوا يتحلون به من شجاعة ومن روح مغامرة في ارتياد الجديد من الآفاق، واستكشاف المجهول من الأصقاع والمناطق...
وقد أحببت أن أذكّر بهذه الرحلة بعد أن استمعت خلال الاشهر الماضية مرات عديدة، كانت آخرتها بمناسبة انعقاد المنتدى الاقتصادي الإفريقي بتونس يومي 24 إلى 25 أفريل 2018، إلى وزير التجارة وهو يبشّرنا بقرب فتح خط بحري مباشر يربط تونس بالسينغال والكوت ديفوار وغانا لدعم صادراتنا اليها...
وأنا إذ أرحب بهذه الخطوة التي طال انتظارها منذ زمن بعيد، وإذ أتمنى للخط البحري المزمع فتحه النجاح وخاصة الديمومة، فإنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن ألاحظ أن أجدادنا الذين عاشوا قبلنا بخمسة وعشرين قرنا كانوا متقدّمين علينا بأشواط وأشواط في تعاملهم مع إفريقيا، استكشافا واستقرارا ومتاجرة.
وهذه الملاحظة تستدعي التساؤل عما إذا سيكون بإمكاننا، في يوم من الأيام، أن نستعيد أمجاد أجدادنا البحرية وأن نكون في علاقتنا بالبحر خير خلف لخير سلف؟
وهذا السؤال جدير بالطرح خاصة في هذه الآونة التي تشهد تناميا في الاهتمام ببعد تونس البحري وهو ما تجلى خاصة في المبادرتين التاليتين:
أولا، مبادرة المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجيةالذي نظم في 13 مارس 2018 ندوة دعا خلالها إلى بلورة "استراتيجية بحرية تونسية" تقوم على جملة من العناصر الأساسية التي تتمثل في تطوير التجارة البحرية والتنمية المستدامة للصيد البحري وتنمية تربية الأحياء المائية واستغلال موارد الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة وتنمية الطب الحيوي الاستشفائي والصناعات الصيدلية والتجميلية واستغلال الطاقات البحرية المتجددة ودفع الهندسة والبحث العلمي والشراكة الدولية وتطوير صناعات مختلف أنماط الهياكل العائمة والسفن واليخوت والزوارق والبوارج والغواصات وخطوط الأنابيب والاشغال البحرية ودفع المشاريع الساحلية الكبرى والمندمجة...
ثانيا، المبادرة الجديدة التي أطلقتها المفوضيّة الأوروبيّة تحت عنوان "مبادرة التّنمية المستدامة للاقتصاد الأزرق في منطقة غرب المتوسّط" والتي تهدف، نظريا وحسب أدبيات الاتحاد الأوروبي، الى احكام التنسيق وتعزيز التعاون بين مجموعة دول خمسة زائد خمسة (أي تونس والجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا من جنوب الحوض الغربي للمتوسط وفرنسا وإيطاليا والبرتغال واسبانيا ومالطا، من شماله) من أجل العمل معا على ارساء فضاء بحريّ أكثر أمنا وسلاما، وخلق اقتصاد أزرق ذكيّ وصامد، وإيجاد حوكمة بحريّة أفضل تمكن من الحفاظ على الأنظمة البيئيّة والتنوّع البيولوجي.
والمؤمَّل أن تساعدناهاتان المبادرتان على استحضار رابطة تونس العريقة المتينة بالبحر، وعلى استعادة الوعي بأن قَدَرَبلادنا "قَدَرٌ بحريّ" ماضيا وحاضرا ومستقبلا، غير أنه قَدَرٌ لا يكون سعيدا إلا إذا تصالحت مع البحر وامتلكت ناصيته من جديد، فلا يكون بعد الآن طريقا لفرار الشباب منها، بل الطريق الى جعلها قطبا اقتصاديا حقيقيا، ومنصة عتيدة للمبادلات التجارية في المتوسط وفي العالم بكافة بحاره وحتى محيطاته...
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق