في كتاب الهادي البكوش »بكلّ صراحة«: ما ســرّ إيقــاف بورڤيبـة الابن يــوم 7 نوفمير؟ وهل تواطأ الخارج مع بن علي؟
صدر هذه الأيّام عن دار الجنوب للنشر كتاب باللغة الفرنسية من تأليف السيد الهادي البكّوش وعنــوانــه «En toute franchise» (بكلّ صراحة). هذا الكتاب الذي يقع في 552 صفحة هو من جنس المذكّرات، وفيه تمتزج الأحداث الشخصية التي طبعت حياة المؤلّف بأحداث تاريخية كان فاعلا فيها أو شاهدا عليها، وهو الذي ناضل في صفوف الشبيبة المدرسية ومنظّمة الكشّافة وانضمّ إلى الحزب الحرّ الدستوري منذ شبابه الأوّل وعرف جرّاء التزامه الوطني ويلات السّجن والإبعاد زمن الاستعمار الفرنسي، وهو الذي تبوّأ كذلك مناصب رفيعة في الحزب والدولة، فكان واليا على بنزرت وصفاقس وقابس في الستينات في فترة التعاضد قبل أن يحاكم مع أحمد بن صالح. لم تطل أقامته بالسجن حيث تولّى مهام رئيس مدير عام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ولديوان الصيد البحري، ثمّ عيّن في ديوان الوزير الأول الهادي نويرة قبل أن يعمل في السلك الدبلوماسي، قنصلا عاما بليون وسفيرا ببارن ثمّ بالجزائر. وعاد إلى تونس في منتصف الثمانينات مديرا للحزب الاشتراكي الدستوري وما لبث أن دخل الحكومة، وزيرا للشؤون الاجتماعية. ساهم إلى جانب زين العابدين بن علي والحبيب عمَّار في الإطاحة ببورڤيبة يوم 7 نوفمبر 1987 وعيّن في ذلك اليوم وزيرا أوّل.
اتّبع الهادي البكوش خطّا متسلسلا في سرد الأحداث والوقائع التي عاشها، فغلب الطابع التقريري على الكتاب الذي جاء في لغة سلسة ترغّب في قراءته.
اخترنا من الكتاب هذا المقتطف الذي يتحدّث فيه الهادي البكّوش عن حادثة «عكّرت صفو»، يوم 7 نوفمبر 1987. كما يردّ المؤلّف على من كان يعتبر أنّ توطؤا أجنبيا كان وراء قلب نظام بورڤيبة:
إيقــاف الحبيــب بـورڤـــيبــة الابن
عكّرت حادثة صفوٓ هذا اليوم الأوّل [7 نوفمبر 1987] وهو إيقاف الحبيب بورڤيبة الابن لساعات على وجه الخطإ. وكإجراء وقائي وُضع تحت الإقامة الجبرية عدد من المسؤولين السياسيين الذين كان من شأنهم أن يقاوموا النظام الجديد، ومن بينهم محمّد الصيّاح ومحمود شرشور وحسن قاسم والهادي عطيّة. كان المعروف عنهم أنّهم حاولوا تنحية بن علي من الوزارة الأولى لتعويضه بمحمّد الصيّاح.
وقد أوقف أعوان الأمن معهم بورڤيبة الابن، مبالغة منهم في التفاني أو لعلّهم نفّذوا تعليمات، وهو ما أثار دهشة أسرته التي اشتكت إليّ فكلّمت بن علي في الأمر فأجابني بأنّه لم يصدر تعليمات لإيقافه قائلا: «لعلّ الحبيب عمّار وزير الداخلية الجديد هو الذي أمر بذلك» فخاطبت هذا الأخير الذي نفى بدوره أن يكون وراء القرار. فأين الحقيقة، ياترى؟ إلى يومنا هذا، إنّي أجهلها.
ومهما يكن من أمر، تقرّر إطلاق سراحه في الحين. وفي اليوم نفسه رافقني في زيارته في بيته الحبيب عمّار وقد استقبلنا هو وزوجته بودّ وقدّمنا له اعتذاراتنا لما حصل. ما وقع كان في نظري خطأ، فكان من الواجب عدم المساس بنجل بورڤيبة، احتراما له وتقديرا لوالده. لم يكن في الحقيقة من سبب لذلك، فعلاقته ببن علي كانت طيّبة.
هل كان هناك تواطؤ أجنبي؟
خلافا لبعض التصريحات، لم تشارك أيّ قوّة [أجنبيّة]، على حدّ علمي، في تغيير 7 نوفمبر. في الولايات المتحدة، كان تغيير النظام متوقّعا. والمرشّحون [لخلافة بورڤيبة] كانوا عديدين، وقد ذُكر اسم بن علي من ضمن أسماء أخرى. وعلاقات هذا البلد ببن علي لم تكن لا شخصيّة ولا وثيقة. وعندما كان مديرا للأمن، تعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، على غرار أسلافه وطبقا للسياسة العامّة للدولة. ولم يكن الأكثر حماسا [في هذا التعاون]. دعاه مدير الوكالة كاسيوس (Cassius) إلى زيارة أمريكا وأرسل إليه تذكرتي سفر بالطائرة له ولزوجته غير أنّه تهرّب ولم يسافر. قام لا محالة بتربّص دام أشهرا بالولايات المتحدة، شأنه شأن آغلب الضبّاط التونسيين، ولكنّه لم يقم مع الأمريكيين علاقات خاصّة. وكان لجاك شيراك، الوزير الأوّل الفرنسي آنذاك شكوك بشأن علاقات بن علي بالأمريكيين. ولمّا دعاني إلى زيارة باريس، لم يخفِ خشيته من تدخّل أمريكي يوم 7 نوفمبر وأسرّ بذلك إلى وزير الخارجية الجزائري أحمد طالب الإبراهيمي الذي طمأنه بقوله: «البكـوش مشارك في العملية، لم يكن هناك تدخّل أمريكي».
هناك من تحدّث عن تواطؤ إيطالي، أنا لا اعتقد ذلك. كانت إيطاليا، مع أندريوتي وكراكسي، تريد تعزيز حضورها في البلدان العربية، ولاسيّما، في المغرب العربي، وأكثرت من أمارات اهتمامها بتونس. وزار قائد مصالحها السريّة تونس والتقى بن علي ومنح مساعدة قيّمة للأمن التونسي في شكل تجهيزات وأموال، لمّا كان بن علي على رأسه. ولا شكّ أنّه أثار معه الوضع السياسي في البلاد، غير أنّه لم يفاتحه بشأن خلافته لبورڤيبة.
أمّا الجزائر، فإنّها كانت تتابع الوضع من قرب. وتذرّع وزير الداخلية في حكومتها الهادي الخذيري بموضوع إعادة المفاوضات بخصوص رسم الحدود بين البلدين، للمجيء إلى تونس لاستطلاع ما يجري فيها، وتحادث مع بن علي بخصوص الوضع السياسي وضغوط بورڤيبة من أجل إعادة محاكمة الأصوليين وإنزال أشدّ العقاب بالغنّوشي. وقبل عودته إلى بلاده، رافقته أنا وسفير بلاده، مسعود آيت شعلال إلى المطار. وبعد مبارحته تونس، جلست أكثر من ساعة مع السفير، وهو صديق قديم منذ أيّام باريس. كان يرى أنّ تونس تمرّ بفترة عصيبة وأنّ بورڤيبة قد شاخ وهرم وأنّ الشّخص المناسب لخلافته هو محمّد الصيّاح.
هل كان ذلك رأيه الشخصي لأنّه كان صديق الصيّاح الذي تعامل معه في إطار الحركة الطلابية أم كان موقف الحكومة الجزائرية؟
هناك من تحدّث عن إقامة وسيلة بورڤيبة في الجزائر لمدّة شهر، حيث قد تكون قد دعت إلى مساعدة الصيّاح على تبّوؤ منصب الوزير الأوّل. وقد يكون قد أعلمت محمّد الصيّاح بذلك بباريس أيّاما قليلة قبل التغيير.وإنّي اعتقد أنّه لو كان على الجزائر أن تتدخّل، لساندت محمّد الصيّاح. وعلى كلّ حال، فوجئ العربي بلخير في الجزائر ومسعود آيت شعلال في تونس، حينما أعلمتهما، يوم 7 نوفمبر، أنّ زين العابدين بن علي حلّ محلّ بورڤيبة. ولمّا كنت أعرف ما يكنّه بن جديد من تقدير واحترام لبورڤيبة، وما يحدوه من عزم على عدم التدخّل في الشؤون الداخلية التونسية، فإنّي استبعد فرضية مشاركته في عمل موجّه ضدّه.
تغيير السابع من نوفمبر مبادرة تونسية، دون أيّ تدخّل خارجي. مبرّراته وأهـدافه تونسية ومنفّذوه تونسيون حصرا. أُنجزت هذه المبادرة دون صعـــوبة كبيرة لأنّ الشعب والإطارات سئمــوا نظاما جامدا لم يعد قادرًا على مواكبة تطوّر المجتمع. وعلى الرغم ممّا يحملونه مـن تقدير وإجلال للرئيس بورڤيبــة الذي قـــاد بإيمان وشجاعة وكفاءة ملحمة التحرير الوطني وأقام برجاحة عقل وحكمة ونجاعة صرح دولة ذات سيادة، عصريّـــة ومتطوّرة، كانـوا يتمنَّوْن رحيله عن منصب الرئاسة. ومــع ذلك، لم يكونوا معارضين ولا غاضبين، بل كانــوا إطارات حزبه ورجالا كوّنهم وأنصارا له ومريدين أوفياء. إنّهم باتوا غير مقتنعــين بقـــدرته على البقــاء في الحكم.
(ترجمة ليدرز العربية)
- اكتب تعليق
- تعليق