أخبار - 2018.04.13

الطّيّـــب الوحيشــي يتـفـيّـأ »ظـــلّ الأرض«

الطّيّـــب الوحيشــي يتـفـيّـأ »ظـــلّ الأرض«

عندما يخطف الموت منّا فنّانا، عادة ما نبكي ما يمنعه الموت من استيفاء الأحلام ووعود الإبداع التي قد يكون المتوفّى منّى بها النّفس وغذّاها في ترحال بين مشاريعه و تصوّراته و أفكاره.
ولكنّنا نسهو في أحيان عن تتبّع خيط ما أمكنه أن ينجزه لنستوفيه حقّه من اهتمام نقدي بالمعنى الإنساني النّبيل للنّقد أي بالتّحليل وتقصّي المعاني التي أمكنه أن ينتجها في مسيرته و أعماله الفنّيّة.
نسهوعن أهمّيّة ما يمكننا أن نتحدّى به الموت، وهو الحياة التي عاشها من فقدناه وما أثّثها به من أحلام ومشاريع راكمها طيلة المدّة التي قضّاها بيننا.

تحضرني في هذا المعنى، وأنا أتهيأ للكتابة عن الطّيّب الوحيشي،رسالة بثّها الكاتب محمود المسعدي، في آخر حديث إعلامي أجريته ونشر في جـــريدة لابـــريس، «أعلن» فــيـــه- وهــو على مقـــربة مـــن المــــوت لا تتجاوز الأشهر- «إنّ الأهمّ هو  الحياة التي قــد عشنــاها «Ce qui importe, c’est la vie vécue». أهمّ من ماذا؟ من الموت الموعود و المعطى الحتمي الوحيد في الوجود الإنساني.

في حين يظلّ الباقي، ما ننجزه في الحياة، طالت أو قصرت، إنّما هو الذي يحدّد تفاعلنا مع الأثر الباقي.

في هذا الحيّز ، حسب رأيي، يمكن أن يصبح لتكريم الفنّان معنى، قبل موته، لا شكّ في ذلك، ولكن أيضا بالضرورة بعده. لأنّ كلّ لحظة إبداعيّة مرّ بها الطّيّب الوحيشي، هي لحظة نذرها دون شك للأجيال القادمة(la postérité).

ينتمي الطّيّب الوحيشي إلى جيل من السّينمائيّين الذي برز في السبعينيّات وبدأ بإخراج أفلام وثائقيّة وأفلام قصيرة. لم يكن ذلك من باب تحصيل الدّربة السّينمائيّة، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى أغلب السّينمائيّين، ولكنّ هذا الخيار يجد مبرّرا في تكوينه الأصلي وهو المتخرّج من جامعة باريس 7 وكلّيّة الآداب و العلوم الاجتماعيّة.

فأفلامـــه القصــيرة والوثائقيّة»التّماثيل»، «قريتي بين القرى»، «الخمّاس»، «الزّيارة»، «زيارة لجدّ المرابطين» وهي عناوين بمثابة العيّنة يمكن أن نصـنّف بهــــا الخصوصيّة السّوسيولوجيّة للمقــاربــة التي اعتمدها الطّيّب الوحيشي،تجسّد هذه الخصوصيّة. وقد اختار أن يتكوّن في السّينما يتّخذها محملا للإشكالية السوسيولوجيّة التي شغلته في العلاقة بين تكوينه الأوّل وبيئته الأصليّة ،الجنوب التّونسي   وتحديدا مارث. وهي جهة ذات طابع مزدوج ريفيّ وأيضا حضاريّ وليس فقط حضريّ.

صحيح أنّ هذا التّداخل لم يستكمل ملامحه في الآثار الأولى التي ذكرنا ولكنّه بدأ يعلن عن نفسه آنذاك ليتثبّت و يترسّخ في شريطه الطّويـــل الأوّل «ظلّ الأرض» وهو شريط يحمل العناصر المرجعيّة لبقيّة أفلام الطّيّب الوحيشي. و هو الشّريط الذي سيرسم ألوان المعاناة التي تحفّ بالعــلاقة مــع الأرض، لا كموطن أصلي أي بمعنى النّشأة أو الميلاد، وإنّما بالمعنى الوجودي وأيضا بالمعنى الكوني.
و هذا الملمح الكوني هو الذي أوقع النّقد في الخلط بين الحقل الانفتاحي -الأنتروبولوجي والسينمائي- والاغتراب ومراودة الأوساط السّينمائيّة الغربيّة، طمعا في الدّعم المادّي وفي ضمان تبنّي الأعمال اللّاحقة الذي أعيـــب على الشّريط. ومن المفــارقة أنّ الطّيّب الوحيشي لا يتفصّى من إغراء العين الغربيّة، و لكنّه يبرّر ذلك بالمبحث الكوني لطرحه الفكري، كما يؤكّد أنّ ذلك المبحث وإن أدّى إلى عائدت مادّيّة على عمله و إنتاجه، فإنّه، بالمقابل، يترسّخ أيضا في بيئيّة مقاربته التي تستدير خلف المظاهر الفلكلوريّة والتّنميطيّة للرّيف الجنوبي لتحفر في ثناياها و تحيّر الأسئلة الوجوديّة التي غالبا ما تتغافل عنها الوسائط الإعلاميّة المسموعة والمرئيّة وحتّى علم الاجتماع الذي يركّز على الذّاكرة ويهمل ما خلّفته وبقي بالتّالي مسكوتا عنه.

ولعلّ طرح هذه الإشكاليّة اتّخذ في «ظلّ الأرض» شكلا بانوراميّا في حدود الاقتصاد الفكري والجمالي لأنّ ما يميّزه عن الأفلام الأولى للسّينمائيّين التّونسييّن أنّه حدّد مبحثه جماليّا و فكريّا ولم يدّع الإلمام بكلّ المواضيع الرّاهنة منها والسّابقة. اعتمد عيّنة اعتبرها ذات تمثيليّة محلّيّة و كونيّة أيضا ثمّ خصّص فيما بعد أشرطته كلّ واحد لطرح الأسئلة التي لم تغب عن شريطه الأوّل بالتّلميح والإيحاء وأحيانا باختيار الألوان و التدقيق الأفقي.

ويحسب للطّيّب الوحيشي أنّه لم يستسلم للمرض ولم يلق بعدسته ليرتاحا معا. و إنّما أحكم تثبيتها بحلم ناعم كالحرير و صلب كالحرير كما يقول ناظم حكمت.

وإذ استنطق الرّيف الصّحراوي في وثائقيّاته وأفــلامه القصيرة مـــؤسّسا بها لشـــريط «ظلّ الأرض»، فإنّه هاجــــر بها إلى الأصقـــاع التي قصدتها شخـوصه واستلهم منها أفلاما أخرى طويلة : «مجنون ليلى» و«عرس القمـر» و«رقصة الرّيح» و«أهل الشّرارة».

عدد هامّ من أفلامه حــاز على جـــوائز في مهرجـانات اعتباريّة، منها أيّام قرطاج السّينمائيّة وواغادوغو ومهرجان الجزائر وباري وجوهانزبورغ ومونريال..

ويبقى هــذا الأثر متفتّحـــا على مـــدارات نقديّة و بحثيّة يمكن أن تنتج مصطلحات نظريّة هامّة في مقاربة السّينما الإفريقيّة والعربيّة..

فوزية بلحاج المزّي


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.