د. عز الدّين عناية: القارّة العجوز...التعدّد أو التبدّد
تثير مسألة التعددية الثقافية في أوروبا جدلا واسعا، بصفتها رؤية اجتماعية منفتحة تناهض الأحادية. فدُول القارّة لا تزال محكومة بعدّة أشكال من المونوبول يطال المجالين الثقافي والروحي أساسا. يأتي الأمر على خلاف ما نجده من تحرّر شامل في السوق الرمزية والروحية في الأوساط الأمريكية. وعلى ضوء ذلك، انتقد جمعٌ من علماء الاجتماع الأمريكان حالات التحكّم السائدة في أوروبا، باسم الوصاية على الذّاكرة الجماعية، وادّعاء التمثيل الأصيل في مقابل الوافد الدّخيل.
الحقيقة أنّ التعــددية الثقــافية في أوروبا بقدر ما تغري وتغوي تبعث على الخشية أيضا لدى بعض الأطراف نظرا لتبعاتها المتنوّعة. ليس لأنّ حمولة التعددية ضارّة، بل لآثارها الجانبية أيضا، في الحدّ من احتكار الرأسمال الرمزي من قبل أطراف نافذة تتحكّم بالمجال الثقافي، كَنَسية ويمينية وشوفينية. كان عالم الإناسة تزفيتان تودوروف، قد صاغ في مؤلّف بعنوان «غزو أمريكا»، تصوّرا نبيها عن عقلية الأوروبيين الغزاة لقارّة أمريكا. لا يزال هذا التصور مجديا في الإحاطة بالوقائع الأوروبية، في تعاملها مع الآخر القادم من العالم الثالث في تاريخنا الراهن.
فقد استعاد تودوروف في بنائه الأنثروبولوجي مختلف المواقف التي اتّخذها الغزاة أثناء مواجهتهم الهنود الحمر، والتي تراوحت بين القول بالذّوبان والتّمييز: من جانب يتيسّر لذلك الآخر أن يصير مثْلَنا، وملامحه المختلفة لن تَحُول دون أن يكون شبها لنا؛ ومن جانب آخر لن يتيسّر لذلك المختلف أن يكون مثلنا، مع استبعاد إمكانية تحوّله إلى كائن مساير لنمط عيشنا ولأعرافنا الاجتماعية. وقلّة من هؤلاء الغزاة من تبنّوا موقفا وسطا، ينبني على مراعاة ذلك الآخر واحترام خصوصياته. وكانت القناعة آنذاك أنّ الآخر ينبغي أن يفتّش عن التلاؤم معنا، إذ الحقّ والخير يدوران معنا حيثما درنا. والغزاة كما يذكر تودوروف: «بحثوا في وصف الهنود الحمر، عن مصطلحات، استوحوا إيّاها من تاريخهم... سمّى الإسبان أولى المعابد التي عثروا عليها ‹مساجدَ›، والمدينة الأولى التي صادفوها ‹القاهرة الكبرى›».
وفي أوروبا المعاصرة أتى التّعاطي مع المهاجرين القادمين من الدول المستعمَرة سابقا، تقريبا وفق المقاربتين المذكورتين. فعلى سبيل المثال طغى على مجمل سياسات الهجرة ضربٌ من اليقين، مفاده أنّ الوافِد سوف ينصهر ويتلاشى في ذلك المدى الجارف، وشُبِّه للكثيرين أنّ الجموع المهاجرة، التي غدت في الحقيقة مستوطنة، سائرة في نسق من الذّوبان لا مناص منه. ففي مرحلة سابقة برّر الاستعمار الفرنسي تواجده في إفريقيا، بهدف «تحضير» الشعوب المتدنّية، أي نقلها من طور حضاري سافل إلى طور آخر راق. وقد بقي هذا المعطى المركزي ثابتا في عمليات الاستيعاب للمهاجر من خلال ما يعرف بخيار –L’assimilation-. ولا يعترف نموذج الدمج القسري (لا الاندماج الطوعي) للمرء بحقوقه إلاّ متى تخلّص من ارتباطاته الإثنية والرمزية والثقافية. فهو نظامٌ مضادّ للتجمعات الثقافية وباحث عن الصّهر الإلزامي، وبالتّالي لا ينطبق عليه مفهـــوم «المولتيكولتوراليزم» multiculturalisme، بصفته لا يعترف أصلا بالمكوّنات الثقافية وإسهاماتها.
تنوّعٌ يأبى الطمس
في حين ومن جانب آخر، رفض الألمان، في البداية، الاعتراف بظاهرة الهجرة على أراضيهم، وحذت هولندا حذو ألمانيا في تلك السياسة، معتبرين القادمين للعمل ضيوفا وقتيين، حتّى لمن قُدّر لهم المولد في تلك الربوع، ضمن ما كان يُعرَف بـ»العمّال الضيوف» (Gastarbeiter). يسكنون في أحياء خاصّة بهم ومعزولون في «غيتواتهم»، قرب المصانع التي استقدموا ليشغّلوا آلاتها، ليتبيّن فشل تلك السياسة الإقصائية لاحقا. كان المهاجرون حاضرين بملامحهم وسواعدهم دون أرواحهم بصفة القادمين هم من تركيا والمغرب وتونس حينها. وحين تُرحَّل توابيت بعض العمّال الأتراك أو المغاربة إلى أوطانهم، يُكتشف حينها أنّ الشّخص من أتباع الديانة الإسلامية، وأنّه آثر أن يدفن في وطنه لا أن يُوارى جثمانه الثرى في أرض أجنبية.
لكن تلك السياسة الألمانية تطلّبت مراجعات عميقة، التي تبيّنَ بالفعل لا واقعيتها وتخلّفها. فالتنوّع القادم نحو ألمانيا في التاريخ المعاصر، والمتمثّل في جموع الأتراك والإيطاليين والتونسيين وسكان المغرب الأقصى، والمتراكم فوق القديم ليس نشازا تاريخيا وليس إسهاما اجتماعيا خارجا عن المألوف. فقد تواجدت في ألمانيا مكوّنات أخرى أقدم عهدا، انضمّت إلى النسيج الأهلي منذ قرون عدة، (الدنماركيون قرابة خمسين ألفا؛ الفريزونيون قرابة عشرة آلاف؛ السينتيون والغجر يقاربون سبعين ألفا، وغيرها من الأقليات الحاضرة منذ القرنين الرّابع عشر والخامس عشر. وعشية هيمنة النازية تمّ تجميع ما يناهز 500 ألف من السينتيين والغجر في محتشدات.
ولكنّ التعددية الثقافية ليست دائما حدثا متأتّيا من الخارج، بل تكون أحيانا أمرا واقعا، ويمكن أن تشير إلى التعايش بين جماعات لغوية وثقافية ودينية متواجدة فوق الإقليم الترابي ذاته. ففي شمال إيطاليا ناحية الشرق، نجد مجموعات عرقية متنوّعة:السلوفينية، والفرويليانية، والشيمبرو، واللادينو، والتيرولوزي، والبروفينسالي، والأوشيتانو، إلخ... كما نجد أقليات الأربريش، في كالابريا وصقلية وبازيليكاتا، وعادة ما تبرز هذه التعددية العرقية بشكل أوضح على التخوم. فالحدود الترابية الثّابتة توازيها حدود ثقافية مائعة. وفي ما يتعلّق بالتعددية الدينية نجد حضورا قديما للتقاليد الدينية العبرية والمسيحية الأرثودكسية، في منطقتي البندقية وترياست، والبروتستانتية اللوثرية في منطقة ألتو آديجي، والفالدية في بييمونته، فضلا عن الحضور المتنامي لشهود يهوه.
وبعيدا عن الحديث السّطحي عن اللائكية، لا يزال الدّين حاضرا في المجال العمومي في الكثير من البلدان الأوروبية: ففي إيطاليا على سبيل المثال ما فتئت الروزنامة المدرسية مخترقة طولا وعرضا بمحطّات الأعياد والاحتفالات الدينية، وعادة ما يكون افتتاح العام الدراسي بإقامة قدّاس، وأثناء حفلات «بطارنة» المدن، أي بما يقابل الأولياء في المخيال المغاربي، لا تبقى المحلات التجارية فحسب مغلقة، بل المؤسسات العمومية أيضا. هذا إن لم نتحدّث عن التشريعات المتعلّقة بالطلاق والإجهاض والإخصاب الاصطناعي، التي لا تزال محكومة بسطوة الميراث الديني.
تصلّب الهويّة الوطنيّة
جاء بروز فلسفة الاختلاف مع جاك دريدا ضمن توجّه عامّ يسعى إلى ترسيخ حقوق الأقليات، ويتطلّع إلى وضعها على قدم المساواة مع الأغلبية المهيمنة. فالعرض المتساوي لأنماط العيش في وسائل الإعلام وفي الفضاء العمومي، حقٌّ يُفترَض أن تضمنه الدولة، لا أن تُختَزل التعددية الثقافية في مهرجانات المطاعم الإثنية، أو في الموسيقى العائدة لتلك الجماعات، ولا يُقبل بحضورها أو إسهامها في جوهر البناء القانوني. فأحيانا هناك قبول فولكلوري للتعددية الثقافية متأت من شغف إيزوتيكي، يقابله رفض إداري ومؤسّساتي.
فعلى سبيل المثال تختزل قضايا التعددية الثقافية، لا سيما منها مع الطّرف العربي المهاجر والمستوطن، في مسائل لحم الحلال والفولار والصومعة. والحال أنّ التعددية هي بحث عن ديمقراطية اجتماعية فعلية. إذ نرصد حيفاً اجتماعياً، قوامه العزل المقصود في الشغل، والاستبعاد على وجه العمد من مواقع النفوذ، لشبيبة من أصول عربية وليدة الغرب. ولعلّ أخطر مستويات عدم تبنّي مفهوم التعددية الثقافية، حين تكون صادرة من أعلى ومدعومة بقرار مؤسّساتي.
ويورد الباحثان عبداللالي حجات ومروان محمد الفرنسيان في مؤلّف «الإسلاموفوبيا: النّخبة الفرنسية وصناعة مشكلة الإسلام»، الصادر في باريس سنة 2013 عن دار لاديكوفارت، أنّه أثناء الإضرابات التّي شنها عمّال شركتي سيتروان وتالبو الفرنسيتين سنة 1982، جرى اتهام المحتجين من قِبل تحالف الأعراف والساسة والإعلام بالأصولية، لأنّ شقّا واسعا من المحتجّين كانوا مغاربة، أدرجوا ضمن قائمة المطالب إقامة بيت صلاة. خلّفت الاحتجاجات حينها ترحيل العديد خارج فرنسا، واختزال القضيّة في مبّررات دينية، بعد وصْف الإضرابات بأنها «شيعية» خصوصا وأن الفترة كانت قريبة عهد بالثورة الإيرانية.
ما يحرج اليوم أن تتحوّل التعددية الثقافية في أوروبا، مع بعض السّاسة، من مطلب اجتماعي إلى برنامج صراعي. يغدو الآخر ليس ثراء بل تهديدا، ليس إضافة بل نهبا. لكنّ ذلك ينبغي ألاّ ينسينا تحوّل التعددية الثقافية أحيانا إلى نقمة بعد أن تخيّلناها نعمة، حين تتحصّن كلّ حساسية ثقافية داخل خندق خاصّ وترفض التّفاعل والتّداخل.
د. عز الدّين عناية
- اكتب تعليق
- تعليق