علي البلهوان رجل 9 أفريل 1938 : وفي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفتَقَدُ الـبَدْرُ
كَفَـــى لَعِبًـــا إِنَّ البِـــلَادَ مَـــــرِيــضَــةٌ وَلَيْـــسَ بِشُـــرْبِ المَــــاءِ تَنْطَفِـــئُ الحُمَّى
هكذا خطب علي البلهوان في الجماهير يوم 8 أفريل 1938 يلهب مشاعرهم الوطنيّة ويستنهض هممهم ويوقد نار العزم في نفوسهم حتّي يستبسلوا في الدّفاع عن مطالبهم ويَثْبُتُوا في مقاومة استعمار غاشم غصب الأرض واضطهد الشّعب وقمع كلّ نَفَس حرٍّ. فقد خرج الشّعب التّونسي في ذلك اليوم متظاهرا ينادي ببرلمان تونسيّ وحكومة وطنيّة وبسقوط الامتيازات، وكان يتقدّم المتظاهرين مدرّس شابّ يتّقد حماسة، صعد في ختام المسيرة الحاشدة على ظهر سيّارة ببطحاء خير الدّين وألقى في تلك الجموع الغفيرة خطابا متأجّجا كان الشّرارة التّي ستصنع يوما من أيّام تونس الخالدة : 9 أفريل 1938.
واليوم يمرّ ثمانون عاما على أحداث 9 أفريل، ويمرّ ستّون عاما على وفاة الزّعيم الذّي اقترن اسمه بالتّاسع من أفريل، فحريّ بنا أن نتوقّف للتّبصّر والاعتبار فنستقرئ سيرة علي البلهوان ونبحث في مختلف أبعاد شخصيّته .
علي البلهوان المثقّف
ينتمي علي البلهوان (1909 – 1958) إلى جيل من الأعلام طبع الحياة الوطنيّة والفكريّة بطابع خاصّ، فهو تِرب المنجي سليم والهادي نويرة والحبيب ثامر من السّياسيين ومحمّد الفاضل بن عاشور ومحمود المسعدي وأبو القاسم الشّابي ومصطفى خريّف وعلي الدّوعاجي من المثقّفين، وهو يمتاز عن هذا الفريق وذاك بأنّه جمع بين النّضال السّياسيّ الميداني والنّشاط الفكريّ والأدبيّ. وعلى غرار كثير من أبناء جيله تعلّم بالصّادقيّة ثمّ بالصّربون في باريس حيث نال الإجازة في الفلسفة والآداب وعاد إلى تونس سنة 1935 أستاذا بالمعهد الصّادقيّ.
ولم يكن البلهوان مجرّد مدرّس للفلسفة والأدب وإنّما كان يساهم في الحياة الفكريّة والثّقافيّة ثائرا مجدّدا مصلحا . وتظهر شخصيّة علي البلهوان المثقّف من خلال مقالاته الهامّة المنشورة بعدد من المجلّات والصّحف التّونسيّة مثل مجلّة «المباحث» ومجلّة «الفكر» ومجلّة «الجامعة» حيث تناول قضايا حسّاسة من قبيل دور المثقّفين في معترك الحياة العامّة، والثّقافة العربيّة بين الشّرق والغرب فدعا إلى تطعيم الثّقافة العربيّة باللّقاح الغربيّ لتتجدّد وتتعزّز وتزكو.
كما تظهر هذه الشّخصيّة من خلال الكتب التّي ألّفها مثل «ثورة الفكر أو مشكلة المعرفة عند الغزالي»، وهو كتاب ذو منحى فلسفيّ درس فيه على نحو معمّق فكر أحد رموز الفلسفة الإسلاميّة وهو أبو حامد الغزالي وأعمل النّظر في ما تثيره مؤلّفاته من قضايا ومشكلات، ولعلّه من أوائل من قارن أفكار الغزالي بأفكار بعض فلاسفة الغرب من أمثال «ديكارت» و«دافيد هيوم» و«هنري برغسن»، ففتح بذلك في فكر الغزالي مستغلقات ونفذ فيه إلى أقاص بعيدة.
وتكشف كتابات البلهوان عمق انتمائه إلى المدرسة الإصلاحيّة التّونسيّة التّي ظهرت بواكيرها منذ منتصف القرن التّاسع عشر، فهو امتداد لذاك الفكر التّحديثيّ وأحد أهمّ أقطابه في النّصف الأوّل من القرن العشرين، وقد برزت نزعته الإصلاحيّة على وجه الخصوص في كتابه «نحن أمّة» حيث عكست قراءته المعمقّة لتاريخ تونس نظرة ثاقبة إلى خصائص الشّخصيّة التّونسيّة وموقفا حصيفا من مقوّماتها الحضاريّة والثّقافيّة فأثبت بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّ تونس تمتلك الشّروط التّي تجعل منها أمّة مكتملة العناصر متماسكة النّسيج.
أمّا في كتابه «تونس الثّائرة» فحلّل البلهوان منطلقات الحركة الوطنيّة التّونسيّة في مقاومة الاستعمار وغاياتها مستعرضا صفحات خالدة من الكفاح الوطنيّ في مختلف مراحله.
علي البلهوان الخطيب
مُنح علي البلهوان موهبة الخطابة، فقد عُرف مذ كان تلميذا بالصّادقيّة ثمّ طالبا بباريس خطيبا مصقعا مفوّها ، ولازمته صفة الخطابة أستاذا بالصّادقيّة ومناضلا وطنيّا صلب الحزب الدّستوريّ الجديد، فقد كان ذا لسان عربيّ فصيح، مفعما حماسة وجموحا، عميق التّأثير في النّفوس وبالغ السّطوة على القلوب، ويذكر كلّ من استمع إليه خطيبا في الجموع الغفيرة كيف كان يملك على السّامعين أمرهم ويأخذ بمجامع قلوبهم فيثير فيهم أعنف المشاعر الوطنيّة وأعمقها.
ولعلّ أحسن من وصف القدرة الخطابيّة لعلي البلهوان وألمّ بخصائصها الشّيخ محمّد الفاضل بن عاشور في كتابه الحركة الأدبيّة والفكريّة في تونس، إذ يقول: «فقد كان استعداده للخطابة مكتمل الشّروط منذ تخرّجه في التّعليم الثّانويّ بالصّادقيّة ثمّ كانت حياة الطّلبة الأفارقة والعرب في باريس هي التّي شحذت موهبته وصقلت مقدرته وأخرجته خطيبا مصقعا قويّ الجّأش حادّ القول حماسيّ الرّوح يبتدئ خطابه رصينا ثابتا ليّنا تغلب عليه الرّوح الفكريّة والميزان المنطقيّ ، فيبسط المعاني في تقرير وتقريب وتنظير ومقارنة، في لهجة أستاذ محاضر، ثمّ لا تزال حرارة الموضوع تصعد به عن مستوى النّظر المنطقيّ إلى أفق الإحساس الوجدانيّ فتصعد معها حرارة نفسه المنفعلة حتّى تطغى عليه الرّوح الحماسيّة فتفصله عن الجوّ الذّي كان فيه فإذا هو ثائر عنيف يرمي في بيانه بحجارة من سجّيل فلا يفرغ من خطابه إلّا وقد نقل سامعيه إلى ذلك الجوّ الذّي حلّق فيه فإذا هو وإيّاهم في بُحران الحماس المتّقد والإرادة العامّة الهاجمة.
ولم يزل مرانُه الخطابيّ يُمدّ روحه وسموُّ ثقافته يرفع بيانه وسعةُ مطالعتِه ودراستِه للأدب العربيّ تهذّب تعبيره حتّى أصبح بين أقرانه الخطيب الممتاز الذّي لا يُنازَع طولَ نفس وسلامةَ تركيب وفصاحةَ لفظ وبلاغةَ جملة.»
ولا شكّ في أنّ الخصال الخطابيّة هي التّي رفعت علي البلهوان إلى مرتبة الزّعيم السّياسيّ وبوّأته مكانة مرموقة في منازل قادة الحركة الوطنيّة ورجالاتها العظام .
علي البلهوان المناضل الوطني
كانت لعلي البلهوان، إلى جانب التّدريس بالمهعد الصّادقي، مشاركات في العمل الوطنيّ، فقد دعي إلى حضور أشغال المجلس الملّيّ للحزب (اللّجنة المركزيّة) المنعقد يومي 13 و 14 مارس 1938 ولم يكن عضوا من أعضائه . وقد أقرّ هذا الاجتماع منهج التّصعيد في مواجهة الاستعمار والمرور إلى المبادرة ومسك زمام الأمور بالبلاد. وكان في أثناء ذلك يُلقي المحاضرات لإيقاظ الوعي الوطنيّ في الشّباب التّلمذي وطلبة جامع الزّيتونة، فقد ألقى في قصر الجمعيّات محاضرة عنوانها «الشّباب التّونسيّ إزاء وطنه»، ورغم أنّه وعد مساعد مدير الصّادقيّة بعدم التّحدّث في السّياسة فإنّ المحاضرة انعقدت على مهاجمة سياسة الضّغط والاستغلال الاستعماريّ المسلّط على البلاد التّونسيّة فتمّ استدعاؤه للمثول أمام المدير العامّ للتّعليم.
وألقى محاضرة في دار الحزب بنهج التريبينال عنوانها «نصيب الشّباب التّونسيّ في حركة المقاومة» يوم 18 مارس 1938 ، وكانت مبرمجة بقاعة السّينما لكنّ الكاتب العامّ للحكومة منعها. وحضرها صالح بن يوسف والطّاهر صفر وسليمان بن سليمان فوجّه له مدير الصّادقيّة إنذارا وهدّده بالطّرد.
ولمّا تظاهر تلاميذ الصّادقيّة تضامنا معه ألقى فيهم خطابا حماسيّا فأصدر المقيم العامّ يوم 22 مارس 1938 أمرا بفصله عن التّعليم بالصّادقيّة.
وعلى إثر إيقاف عدد من الزّعماء (سليمان بن سليمان ويوسف الرّويسي ثمّ صالح بن يوسف والهادي نويرة) دعا الحزب إلى إضراب عام يوم 8 أفريل 1938. ويوم الإضراب ألقى علي البلهوان خطابا حماسيّا في المتظاهرين، ونُظّمت مظاهرتان : إحداهما قادها البلهوان نفسه من نادي الحزب نحو ساحة الإقامة العامّة والثّانية قادها المنجي سليم من رحبة الغنم مرورا بباب المنارة وباب الجديد إلى ساحة الإقامة العامّة على أن يلتقيا في ساحة باب البحر. وكان الحزب قد طالب بتنظيم مظاهرة ثانية يوم 10 أفريل.
ولمّا رأت السّلطات الاستعماريّة الخطر الدّاهم الذّي يهدّدها تآمرت على شعب تونس الأعزل وألقت القبض يوم 9 أفريل صباحا على الزّعيم علي البلهوان وبثّت أعوانها بين الطّلبة في الأسواق ليعلنوا ذلك الخبر، وتجمهرت حشود غفيرة أمام قصر العدالة لتمنع إدخال البلهوان إلى المحكمة وتخلّصه من السّجن ، وامتلأت الطّرقات المؤديّة إلى قصر العدالة بالمتظاهرين ، وكانت القوّات الفرنسيّة قد كمنت في محيط المحكمة ثمّ اندفعت من مكمنها تحصد الشّعب حصدا بأسلحتها النّاريّة وهاجمت الدّبابات والمصفّحات الجمهور الأعزل فكانت أدمى مجزرة عرفتها تونس: مئات من القتلى والجرحى. سُجن البلهوان بالسّجن العسكري بتبرسق ثمّ نُقل مع سائر زعماء الحركة الوطنيّة إلى حصن «سان نيكولا « بمرسيليا إلى أن دخل الألمان فرنسا في الحرب العالميّة الثّانية فأطلقوا سراح الزّعماء من سجونها سنة 1943.
علي البلهوان ودولة الاستقلال
انتُخب البلهوان عضوا بالمجلس القوميّ التّأسيسيّ في مارس 1956، وكان ضمن أوّل وفد تونسيّ إلى الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة غداة قبول تونس بها في 12 نوفمبر 1956، وهكذا رافق الرّئيس بورقيبة بوصفه وزيرا أوّل ووزيرا للشّؤون الخارجيّة في زيارته الأولى لنيويورك.
ثمّ ترأّس قائمة الحزب الدّستوري بمدينة تونس في الانتخابات البلديّة الأولى ماي 1957 فأصبح أوّل رئيس مُنتخب لبلديّة العاصمة. وقد نصّبه الزّعيم بورقيبة نفسه رئيسا للمجلس البلديّ بتونس بحضور كافّة أعضاء الدّيوان السّياسي.
وقد كوّن فريقا من المناضلين المتفانين المستنيرين ليتولّوا تجديد العاصمة. واختار خاصّة كاتبا عامّا للبلديّة هو الهادي الرّياحي، وكان بورقيبة اقترح عليه أن يعيّن حسن حشيش ولكنّه تمسّك باختياره رغم إلحاح بورقيبة.
وان لم يكن للبلهوان منصب حكوميّ فقد كان له دون شكّ وزن سياسيّ ورمزيّ صلب الحزب حيث كان يحظى بالتّقدير والاحترام، فقد عُيّن ضمن وفد المجلس التّأسيسي الذّي كُلّف يوم 25 / 7 /1957 بإعلام الأمين باي بقرار إعلان الجمهوريّة ، وفي ديسمبر1957 كُلّف برئاسة الوفد التّونسيّ إلى ندوة الشّعوب الإسلاميّة في لاهور ثمّ إلى ندوة الدّول الإفريقيّة المستقلّة في أكرا 1958. وفي السّنة نفسها شارك مع الباهي الأدغم في النّدوة المغاربيّة في طنجة من 27 إلى 30 أفريل 1958 وكان عضوا للوفد المكلّف بعرض نتائج النّدوة على ملوك ورؤساء دول المغرب العربي وبعض البلدان العربيّة مثل ليبيا ومصر والسّودان واليمن والعربيّة السّعوديّة.
موت مفاجئ
بعد عودته إلى تونس انعقد اجتماع مضيّق حول الرّئيس بورقيبة بمكتبه في القصبة صبيحة يوم 10 ماي 1958 ضمّ الباهي الأدغم والطيّب المهيري وعلي البلهوان، وقد طال الاجتماع على نحو غير مألوف. ويذكر الباجي قايد السّبسي في مذكّراته، وقد كان آنذاك أحد مساعدي الطّيب المهيري، أنّه ذهب بعد الاجتماع المذكور إلى مكتب الطيّب المهيري فوجده في محادثة مع علي البلهوان، فوقف البلهوان واستأذن في المغادرة فرافقه الباجي قايد السّبسي إلى باب الخروج فما كان منه إلّا أن أخذه من ذراعه وقال له بصوت أجشّ : «اعلم يا بنيّ إذا كانت الحياة بدون كرامة فالموت أفضل». ففهم أنّ الاجتماع الرّئاسيّ كان حادّا وأنّ البلهوان قد يكون أُجبِر على تغيير الكاتب العامّ لبلديّة العاصمة وهو قرار لم يرضَه. وفي اليوم نفسه توفيّ البلهوان في الثّالثة ظهرا إثر نوبة قلبيّة. ومن الغد دُفن في روضة الشّهداء بمقبرة الجلّاز وكان الرّئيس بورقيبة قد تقدّم موكب الدّفن بنفسه.
وفقدت تونس برحيل البلهوان رجلا فذّا جمع من الخصال والمناقب ما تفتقر إليه الغالبيّة من طبقتنا السّياسيّة اليوم : ثقافةً متينةً واسعةً ولسانا ذلقا فصيحا وقدرة على التّأثير والإقناع وحسّا وطنيّا عميقا وتفانيا منقطع النّظير في خدمة تونس، حتّى لكأنّ أبا فراس الحمداني تكلّم على لسان البلهوان عندما قال:
سَيَذْكُرُنِي قَوْمِي إِذَا جَدَّ جِدُّهُم
وَفِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ البَدْر.
د. الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق