أخبار - 2018.03.27

الإشـــاعــة السّيــاسيّـة: السّــلاح الخـفـيّ

الإشـــاعــة السّيــاسيّـة: السّــلاح الخـفـيّ

يعيش المجتمع التّونسيّ على إيقاع أحداثٍ سريعة. ولكلّ حَدَثٍ عند النّاسِ حَدِيثٌ. المشهد الإعلاميّ حُرٌّ طليق بلا قيود. وشبكات التّواصل الاجتماعيّ ساحة عامّة مترامية الأطراف، فيها إلى جانب الكلام المفيد، لغطٌ ولَغوٌ و أراجيف. الأخبار تتدافع بين صحيح ومغلوط. ويكاد النّاس يبيتون ويصبحون على الإشاعات، وبخاصّة السياسيّة منها. وقد صَحَّ أنّ هذا الصّنف تنتعش سوقه في فترات الانتقال السّياسيّ وما يتخلّلها من رهانات وصراعات، فكيف يمكن أن نفهم هذه الظّاهرة؟

وصف الخبير الدّوليّ في الاتّصال Jean-Noel Kapferer الإشاعة بأنّها « ظاهرة غامضة وشِبهُ سحريّة...تطير وتزحف وتتعرّج وتَعدُو...أمّا تأثيرها في البشر فأشبه بالتّنويم المغناطيسيّ، وخصوصا أنّها تُبهر وتغوي وتسحر الألباب وتُلهب الحماسة». و هي تُعرَّف سوسيولوجيًّا بأنّها خبر يُنسب إلى مصادرَ موثُوقٍ بها ولكنّها غير معلنة؛ يتمّ تداوله بشكل سريع داخل الجماعة التي تميل إلى تصديقه رغم عدم امتلاكها دليلا قاطعا على صحّته. وهي تكتسب سرعة الانتشار من طبيعتها غير المألوفة بوصفها تكشف المستور وتنبّه إلى خطر؛ ومن ثمّ تستفز الخيال و تثير الانفعالات و تُشكّل المواقف الجماعيّة.

للإشاعة دورة حياةٍ، فهي تولد فجأة وتنتشر بسرعة وتحوز على اهتمام متعاظم، وتبلغ الذّروة ثمّ تتراجع وتتفكّك وتنطفئ.  كما أنّ لها سياقاً اجتماعيّا يحتضنها ومضموناً اتّصاليّا تحمله. وهي تؤدّي جملة من الوظائف الاجتماعيّة والنفسيّة، إذ تعبّر عن الهواجس والتّساؤلات الجماعيّة خاصّة في الظّروف التي تتّسم بالغموض والحيرة والتّهديد والخطر. فعندما تعجز الجماعة عن الفهم تتبنّى فرضيات عدّة و تتداولها ومن ثمّ تولد الإشاعة. هي بهذا المعنى نتاج جماعيّ يعكس عدم الثّقة في مصادر المعلومات الرسميّة، و الاستعاضة عنها بحياكة معلومات غير رسميّة ولكنّها تحظى بالإجماع. لذلك غالباً ما تُسبَق بعبارات من قبيل: قالوا، أو النّاس تحكي... وهذا ما يجعل تصديقها ونشرها تعبيرا عن الانتماء للجماعة. ويعتبر بعض علماء الاجتماع أنّ الإشاعات تنتشر بسهولة في المجتمعات التي تتميّز بالتّرابط بين أفرادها، ولهذا يطلق عليها تشبيه الهاتف العربي Téléphone arabe.

خاض الباحثون في إشكاليات مصدر الإشاعة ونسق تشكلّها وسبل دحضها ولم يحسموا الأمر. وهنالك اتّجاه في العلوم الاجتماعيّة والسياسيّة يرى أنّه من المفيد أكثر أن نحلّل مضمون الإشاعة ونربطها بسياقاتها لعلّنا نفهم حالة الوجدان العام و كيمياء المخيال الجماعي؛ ومن ثمّ نُصغي إلى رجع الصّدى القادم من أعماق العامّة. فالإشاعة لن تتوقّف، اللّهم إلاّ إذا منعنا النّاس من الكلام نهائيا !

يُصدِّق النّاس الإشاعة لأنّها قابلة للتّصديق، ولأنّها تجد ما يبرّرها في السّياق الاجتماعيّ الذي تنشأ فيه؛ مَثَلُ ذلك أنّ كلّ إشاعة تتعلّق بالمال أو السّلطة أو الجنس لا يستبعدها المتلقّي في ظلِّ انشغال المجتمع بقضايا الفساد. وكلّما زاد التّركيز الإعلاميّ على قضيّة إلاّ ووجدت الإشاعة ما يُنعشها. كثرة الأخبار واتّساع دائرة النّقاش العام حولها لا يَصُدّ الإشاعة عكس ما كان الباحثون يتصوّرون. هنالك دائما «وكالات أنباء شعبيّة غير رسميّة» تتغذّى من الواقع الاجتماعيّ وتقدّم نشراتها الخاصّة بها. وغالبا ما يثق النّاس بما هو نابع منهم ويسعى إلى تنبيههم وحمايتهم ممّا يتهدّدهم. لذلك تشتغل الإشاعة كجرس إنذارٍ مُلِّح لا يترك للأفراد الوقت للتثبّت من أصل الحكاية وتفاصيلها تأسِّيًا بمنطق أن  ليس هنالك دخان من دون نار ! فضلا عن التشوّق الفطري لبني البشر لمعرفة ما خَفِيَ وكان أعظم. وقد أدركت وسائل الإعلام هذا فوظّفت الإشاعة وحوّلتها إلى مادّة إخبارية. وكثيرا ما تكون عناوين رئيسيّة لعدد كبير من الصّحف المكتوبة والالكترونيّة. يكتفي المحرّرون بوضع نقطة استفهام في آخر النص كإشارة منهم إلى أنّهم غير واثقين من المعلومة. ولكن من ذا الذي ينتبه إلى نقطة الاستفهام تلك؟ ما يبقي في البال هو النصّ الصّادم والمثير. إعادة إنتاج الإشاعة في وسائل الإعلام يزيد من انتشارها وتثبيتها. ولن تصمد أمامها الرّدود والتّوضيحات وبيانات التّكذيب. ماذا يستطيع تكذيبٌ قُدَّ من لغة خشبيّة باردة أمام لهيب الإشاعة المُستعِر؟!

الإشاعة قَدَرٌ على أهل السّياسة. هي جزء من اللّعبة. يكتوون بنارها إذا استهدفتهم. وتصادف هوى في قلوبهم إذا وُجِّهت سهامها نحو الخصوم. وقد تأكّد اليوم في علم الاتّصال السياسيّ أنّ كلّ فِعلٍ تقوم به شخصيّة عامّة وبخاصّة تلك المشتغلة بالسّياسة هو فِعلٌ اتصاليّ. كلّ ظهور علنيّ، كلّ خطاب، كلّ تصرف، حتّى الأكثر حميميّة وذاتية،  قابل للتّأويل والتّوظيف. و صناعة الإشاعة فِعلٌ اتصاليّ أيضا. فهي رسالة مضمونة الوصل، غير مُكلِفة، سهلة التّناقل، لا أحد يتحمّل مسؤوليتها. وهي ذات تأثير جسيم بما أنها تكشف حقيقة يتم إخفاؤها عن المجموعة. وتدور حول مواضيع شديدة الحساسيّة مثل: الصّحة و المال و الجنس و الارتباط بالأجنبيّ و الماضي السياسيّ...و من هنا تتحول الإشاعة إلى سلاح خفيّ لا بد أن يبقى من شظاياه أثرٌ ما، عملا بالقولة المنسوبة لـ   Francis Bacon  «المزيد  المزيد من الافتراء فسيبقى دائما منه  شيء» :

Calomniez, calomniez, il en restera toujours quelque chose.  وكم من سياسيّ أصابه القوم بجهالة، ولم يهتمّــوا ببراءته إذا ظهــرت بعــد ذلك بحجــم اهتمامهــم بإدانته المسبّقــة.

ولكن الأدهى والأمرّ هو أنّ هذا السلاح الخفيّ قد تحوّل إلى ذخيرة حرب مُدمِّرة تُعرف اليوم بمُسمّاها الأمريكي  Fake news ،  ويُقصد به صناعة الأخبار المُلفّقة و المُغرِضة عمدًا وعن سابق تخطيط. وهي بالفعل حرب تستهدف تدمير الذّوات والأعراض ، لا يسلم منها الأفراد والجماعات ولا حتّى أوطان برُمَّتِها. تقف وراءها «ميليشيات سيبرنية» خبيرة بتوظيف الأنترنت لخدمة أهداف السّياسة والمال والسّلطة، مُتمترِّسة وراء منصّات الكترونية، تستغلّ سهولة تقاسم روّاد الشّبكات الاجتماعية للأخبار والصور والفيدوهات دون تفكير أو تَرَوٍّ، لتؤسّس لما أسماه عالم الاجتماع   Gerald Bronner  «ديموقراطية الســــذّج» La démocratie des crédules ، وتشرّع لسياسة قلب الحقائق، وتنشر شريعة ما يسمّيه بعض علماء الاتصال السياسي المهتمين بالموضوع Politique post-truth.

مربط الفرس أنّ الإشاعة بأشكالها المختلفة انعكاس لأزمة قيم في السلوك السياسيّ والاجتماعيّ. كما أنّها تعبير عن انعدام التّواصل والثّقة بين النّخب السياسيّة والمجتمع. فمازال النّاس متشبثين باعتقاداتهم الرّاسخة عن عالم السّياسة.  هو بالنّسبة لهم عالم المصالح والدّسائس وامتطاء رقاب المواطنين لبلوغ سدّة الحكم. وهو عالم خفيّ تُعقَد فيه الصّفقات «تحت الطّاولة». وهو مسرح كبير، السّياسيون فيه مجرّد دُمَى تحرّكها أَيَادٍ خفيّة (لوبيات، أطراف، مافيات...). و لمواجهة هذا العالم تكون الإشاعة حلاًّ بديلاً أو استثمارا متوحّشًا. فهي تكشف المستور وتفضح المُتسَتِّر بأسلوبها وآليات اشتغالها. وستظلّ بيننا تملأ الدنيا وتشغل الناس. المشكلة ليست في الإشاعة، المشكلة في بلوغ معادلة السّياسة والأخلاق. وتلك قصّة أخرى.

منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
د. زكريا صادق الرفاعى ، مصر - 14-04-2018 04:23

مقال اكثر من مهم لظاهرة عربية بامتياز ، حلل الكاتب وفسر الظاهرة من شتى الوجوه ، وبقلمه الرشيق جعل الدكتور المنجى من المقالة متعة فى القراءة ، فله جزيل الشكر والعرفان ، ونرجو المزيد .

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.