ببيت الحكمة : كيف يمكن إنقاذ تونس؟
"تعقد هذه الندوة للنّظر في تحديات تواجهها تونس في الظرف الراهن المتّسم بعديد المخاطر، تستوجب الأزمة مقاربات توضّح السّبل وتحلّل الواقع بعمق، ليست محاضراتها للتحليل فحسب بل للاستشراف، فالمطلوب اليوم التشخيص العلمي واستشراف الحلول'، بهذه العبارات المفعمة بالرسائل المعرفيّة والسياسيّة والاقتصاديّة افتتح الدكتور عبد المجيد الشرفي رئيس مجمع بيت الحكمة يوم السبت 3 مارس 2018 ندوة بعنوان "التحديات التي تواجهها تونس في دعم البناء الديمقراطي وهي تمرّ بأزمة اقتصاديّة واجتماعيّة"، نظّمها قسم العلوم الإنسانية والاجتماعيّة بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" بالتعاون مع حلقة خير الدين.
جمعت فعاليات النّدوة بين مقاربات أكاديميين مختصين وجدل المهتمين بالشأن العام، حيث حضرت بكثافة إطارات جامعيّة وإعلاميّة وحقوقيّة واقتصاديّة إلى جانب بعض السياسيين.
محمود بن رمضان : القطع مع ثقافة الهيمنة والمصالح الذاتيّة
اعتمد الأستاذ محمود بن رمضان في المحاضرة الافتتاحيّة حول الحدود القصوى من الأزمة لغة الأرقام وجداول إحصائيّة تثبت بمنطق المقارنة والتشخيص العلمي المحض أنّها"أزمة لم تشهدها تونس سابقا"، موضّحا الوضع المأسوي للمؤسّسات الاقتصاديّة وخاصّة المحوريّة في النسيج الاقتصادي الوطني على غرار قطاع الفسفاط، كما قدّم المحاضر عرضا حول ديون الصناديق الاجتماعيّة فلم تبلغ ديون بعض المؤسّسات الحدود القياسيّة فحسب، بل عانقت طور العجز التام على تسديد الديون والالتزام بتعهّدات الدولة كضامنة، ومن الطبيعي أن تقوّض لغة الرياضيات وجداول الإحصاء شعارات السياسويين غير المدركين أو المتجاهلين لانعكاسات تلك الديون وإفلاس الصناديق الاجتماعيّة، وانسداد أفق التشغيل وتدهور قطاعات الخدمات الضرورية فضلا عن تدهور القدرة الشرائيّة، إلى جانب الأزمة في مستوى خدمات القطاعات الحيويّة كقطاع الصحة، لقد بلغت هذه الأزمة "غير المسبوقة" حسب عبارة الأستاذ محمود بن رمضان التخوم الحمراء، ودليله في ذلك عديد المؤشّرات كنفاذ الاحتياطات الماليّة وعجز مؤسّسات اقتصاديّة على خلاص ديون خارجيّة مثل المجمع الكيمائي، إلى جانب عناء تسديد الأجور، وهل يجوز بيع الأوهام حينما ترمدّ كل الألوان؟
وبالتالي دعا الخبير الاقتصادي إلى "توحيد تونس والتونسيين" وإلى القطع مع "ثقافة الهيمنة والمصالح الذاتيّة"، داعيا إلى حتميّة وعي الجميع بضرور اتخاذ تدابير الإنقاذ لأنّها ليست أزمة إمكانات وموارد فحسب، وإنّما هي أزمة إدارة الشأن العام، تتراوح بين المراهقة السياسيّة والصراعات الفئويّة والهوس بغنائم الحكم.
الهادي العربي : البحث عن حلول سياسية
ولئن ركّزت المحاضرة الأولى على جوانب تقنيّة، متكلّمة لغة الأرقام أساسا اختار الأستاذ الهادي العربي مفردات الموسوعة السياسيّة إيمانا منه بأنّها "أزمة سياسيّة صرفة" إذ افتتح محاضرته قائلا: " لا يجب البحث عن الحلول التقنيّة بل يجب البحث عن الحلول السياسيّة" فالمطلوب بتصوّره طرح أسئلة تتّصل بنمط الحكم ومدى مشروعيّة الإقرار بوجود دولة اليوم قادرة بالفعل على تطبيق القانون، وهل هي قادرة بطابعه الحالي على ضمان الاستقرار السياسي، مؤكّدا نجاح القوى المعادية لمفهوم الدولة في إنهاكها واضمحلال مؤسّساتها، وحجّته إرغامها على "الحوار مع مجموعات غير قانونيّة"، إنّه سوء التدبير والفوضى المتستّرة بشعارات حقوقيّة وسياسيّة "لا علاقة لها بالديمقراطيّة" وفقا لعبارته . وللتأكيد على وجاهة موقفه قارن بين ديمقراطيّة فلاسفة التعاقد الاجتماعي مثل روسو وفوضى الديمقراطويين، إنّه "الوضع غير الطبيعي" فأيّ معنى لدولة لا تطبّق القانون؟ لقد انتقلنا برأي بعض المتدخلين من دولة تستبد بواسطة القانون إلى دولة تخشى تطبيق القوانين، لنستخلص مشروعيّة الإقرار بالطابع السياسي لأزمتنا، تلك التي بلغت حدودها النهائيّة حسب المحاضر، ولابدّ من القطع مع فوضى مقوّضة برأي الأستاذ الهادي العربي لكل حلول تقنيّة لأنّ عودة الدينامية الاقتصاديّة تمرّ حتما عبر جسور الأمن والاستقرار السياسي والعدالة . ومن البديهي جدا أن ينهار أي بناء ديمقراطي إن أضحت أجهزة الحكم تتسوّل الاعتراف بها، وتجتهد من أجل إرضاء قوى ومهادنة قوى أخرى، ومغازلة أجنحة ومسايرة أجنحة أخرى الخ..
مراجعة شاملة للفعل السياسي
لذلك نحن بحاجة إلى "ثقافة احترام الدولة" مثلما ورد في محاضرة الأستاذ الصادق بلعيد حول الشروط المؤسّساتيّة والسياسيّة للخروج من الأزمة، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف برأيه إلاّ عبر "إصلاح النّظام السياسي" باعتباره قد بلغ أقصى درجات تهديد كيان الدولة نتيجة منطق المصالح الحزبيّة، فالطبقة السياسيّة أصبحت مهووسة بمكاسب الحكم ممّا يفسّر عدد الأحزاب(217)، في حين أنّ الخيارات والرؤى محدودة جدّا، يمكن عموما اختزالها في ثلاث أو أربع أطروحات كبرى ، لكن اللّعبة السياسيّة وهواجس الزعامة ونزوة فتح الدكّان السياسي، كلّها آليات تبريريّة لاقتسام ما بقي من الوطن وبقايا جثث هياكله.
وللخروج من نفق العتمة اقترح الأستاذ الصادق بلعيد "مراجعة شاملة للفعل السياسي"، منطلقا من الفصل 80 من الدستور المتعلّق بصلاحيات رئيس الجمهوريّة في الحالات الاستثنائيّة التي يكون فيها كيان الدولة مهدّدا، كما دعا إلى قيم التضامن واقتسام الآلام.
لقد أجمعت كل المداخلات والنقاشات على الطابع السياسي لأزمة يفترض تخطيها مقاربات تتجاوز التحليل المؤدلج، وصراخ منابر التهريج السياسي، ولغة التعبئة للحسابات الانتخابيّة لأنّ وقوف العدّاد الاقتصادي سيقود حتما إلى مسارات دراماتيكيّة، فلا يمكن التسليم بقدريّة أي أزمة إن توفّرت إرادة سياسيّة تراهن على أطروحات نخبها وتحاليل علمائها وبحوث مفكّريها، باختزال شديد لم ولن تستمر كل الحكومات والأنظمة التي لا تحسن الإصغاء لقادة الرأي وأطباء الحضارة.
- اكتب تعليق
- تعليق