منجي الزيدي: المـراهقة المجهولة, هل نعـرف أبناءنا؟
المراهقة مرحلة عمريّة يختلف علم الاجتماع وعلم النّفس في ضبط حدودها، في حين ترى منظّمة الصّحة العالميّة أنّها تمتدّ على طول العقد الثّاني من دورة الحياة. وتعتبرها مرحلة قائمة بذاتها وفريدة من نوعها، إذ تتشكّل خلالها المقوّمات الجسديّة والصحيّة والنفسيّة للإنسان.
وهنالك اتّفاق على ارتباط المراهقة بالبلوغ. وهو حدث فيزيولوجي فارِق يتمثّل في اكتساب الفتى والفتاة القدرة الجنسيّة والإنجابيّة. وبالتّالي فهي مرحلة تحوّلات فزيولوجية تصاحبها تغيّرات في السّلوك والمزاج والنّظرة إلى العالم. وقد عدّها الفيلسوف الفرنسي «روسو» ولادة ثانية من أجل الجنس. ووصفها عالم النفس الأمريكي «جورج ستانلي هال» بأنّها ميلاد جديد وعجيب. ورأى «فرويد» أنّها فترة شدّة ومحن. واعتبرها الكثيرون أزمة.
تبدو المراهقة أمرا بديهيا لا يحتاج إلى تفسير، ولكنّها في الواقع تبقى عالما غامضا ومجهولا ومحيّرا. فكثيرا ما يصاب الأولياء بالقلق إزاء تغيّر تصرّفات أبنائهم ومواقفهم. وينتابهم الانشغال والحيرة من المسافة التي أصبحت تفصل بينهم وبين أولئك الذين كانوا بالأمس أطفالا وديعين ينامون في أحضانهم. كأنّهم لا يعرفون أبناءهم. الطّفل التّابع أصبح يافعاً منجذباً نحو عالم الأقران بعلاقاته وتحديّاته وفضاءاته المادية والافتراضيّة وثقافته الخصوصيّة. عالم خاص بصدد التَّشكُّل بقيمٍ ورموزٍ ولغةٍ وأذواقٍ وتعبيراتٍ مختلفة. إنّه عالم لا يتوافق دائما مع القيم السائدة ومعايير السلوك المعهودة ومحدّدات النّجاح والفشل.
كما يعيش الأولياء خوفا دائما من نوازع المغامرة والتّحدّي لدى أبنائهم وعدم تقديرهم للمخاطر. ويضيقون بسلوك الإهمال واللاّمبالاة والفوضى وعدم التركيز. وترهقهم أحيانا طلباتهم التي لا تنتهي ومصاريفهم المشطّة. يثورون من تراجع نتائجهم الدراسيّة. وتقضّ مضاجعهم قصص الحبّ الصغيرة...ويقفون أحيانا عاجزين عن فهم ما يحدث.
ولكن لنسأل أنفسنا: من أَسّسَ لسلوك الاتّكال على الوالدين في كل شؤون الحياة؟ من رسّخ ثقافة الطرق المُختصرة، وقيم التحايل على الصعوبات، وشراء النّجاح، وأولوية الحظّ والرّبح السّريع على الجهد والمثابرة؟ من كرّس ثقافة الكبت والنفاق الاجتماعي؟ من أشاع طباع التبجّح والاستعراض؟ من طبّع مع النميمة والحسد والحقد والقذف العلني والشتيمة ونشر أدران المجتمع على الشاشات في أوقات الذروة؟ من الذي كفّر عن غيابه وانشغاله بمصروف جيب سخيّ وهاتف ذكي وشاشة تَشغٓل الأولاد وتملأ فراغهم؟ من التي باعت ما تملك لتدفع ثمن «الحرقة» لترمي بفلذة كبدها في عرض البحر؟... وهلمّ جرًّا. ألسنا نحن المسوؤلين؟ ماذا ننتظر من أبنائنا وماذا قدّمنا لهم؟ تلك هي المسألة.
الواقع أنّ المراهقة فترة بحثٍ عن هويّة فرديّة ينشدُ من خلالها المراهق اعترافاً ومكانةً وجاذبيةً؛ وعن هويّة جماعية ينتظر من خلالها إجابات عن أسئلة محيّرة حول معاني الوجود وأبعاده الروحية والمادية، وبالتالي فهي فترة بحث عن التوازن. وليس الأمر باليسير لمن يخطو خطواته الأولى في عالم يقدّم إجابات متناقضة، عالم متعدّد المرجعيات، سريع التحوّلات، كثير التحديّات، مليء بالمخاطر. عالم تطوّرت إمكانياته وفرصه بقدر ما اتّسع هامش الخيبة والإحباط فيه. لذلك صارت المشاكل النفسية العبء الأكبر بالنسبة إلى المراهقين. وعندما يفشل المراهق الأعزل عاطفيا واجتماعيا ومعرفيا في مواجهة صعوبات الحياة وإكراهاتها يلتمس الخلاص في الحلول الوهميّة.. ولا فرق حينذاك بين سموم مخدّرات تُستهلك في علب ليليّة فاخرة أو في أزقّة الأحياء الفقيرة.. كلّها تؤدي إلى جحيم.
تطالعنا إحصائيات المنظمة العالميّة للصحة بأرقام مرعبة: الانتحار يحتلّ المرتبة الثَّالِثَة من أسباب وفاة المراهقين. الاكتئاب هو السبب الأوّل في الأمراض والعجز تليه الإصابات على الطرقات. نصف اضطرابات الصحة النفسيّة يبدأ في سنّ 14 عاما. وتبقى معظم الاضطرابات غير مكتشفة ودون علاج. علينا أن نفهم أنّ الأولياء يطمحون إلى أن يروا نجاحهم الذاتي يتجسّم في ذرّيتهم. ويحلمون بأن يحقّق الأبناء ما عجزوا هم عن تحقيقه. ولكن عندما تصطدم توقّعات الكهول بتطلّعات المراهقين تحدث خيبة الأمل لدى الطرفين. كيف نساعد أبناءنا على اختيار مسار الحياة؟ تلك هي المسألة.
علينا أن ندرك أنّ الأولياء يسعون إلى إسقاط تجاربهم على أبنائهم.ويُصرّ الأبناء على خوض التّجارب بأنفسهم. الكهول في سنِّ الحيطة والحذر والتخطيط، أمّا اليافعون فهم في سنِّ الحركة والإثارة والمخاطرة.
وقد اثبت التّطوّر العلمي أنّ مناطق دماغ المراهق التي تنشد المكافأة تنمو قبل المناطق المسؤولة عن التخطيط والتّحكّم العاطفيّ. كما ثبت أنّ لدماغ المراهق قدرة كبيرة على التغيّر والتأقلم، «ممّا يعني أنّ ممارسات التجربة والاكتشاف والمخاطرة التي تحدث أثناء المراهقة هي ممارسات معيارية أكثر من كونها مرضيّة، وأنّ هناك إمكانيّة حقيقيّة لتحسين التطورات السلبيّة التي حدثت في سنوات الحياة المبكّرة».(تقرير منظمة الصحة العالمية 2014).
كيف نرافق أبناءنا في تجاربهم الحياتية الخاصة؟ تلك هي المسألة.
المراهقة هي نقطة انطلاق مسيرة الحياة. وقد بيّنت دراسات كثيرة، منذ أكثر من قرن، أنّ مواهب عدد كبير من العباقرة ظهرت في فترة المراهقة، وأنّ هؤلاء اتسموا في تلك المرحلة من حياتهم بالطموح والحلم والعاطفة والميل إلى الوحدة ورفض الواقع والتوّق إلى التغيير ... وقد عرف بعضهم الفشل الدراسي، وقد يكون بعضهم الآخر حاول الانتحار.
المراهقة منجم الطّاقات الكامنة تنتظر من المجتمع اكتشافها ومساعدة البذرة الصالحة كي تنمو. الأُبوّة والأُمومة حُنُوٌّ ومسؤولية وقدوة ومرافقة بلين. والبُنوّة بِرٌّ وتقدير وثقة. والمحبّة مظلّة للجميع. كلمة أخيرة: في تراثنا النيّر قولة رائعة: لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق
شكرا جزيلا استاذي على المقال ، أشرت أن المراهقة فترة اندفاع و قوة في نفس الآن و انعدام للمسؤولية خاصة عند تضارب انتظارات الأولياء و واقع الأبناء ، أعتقد أن هناك عوامل أخرى خارجية مختلفة عن التغيرات الجسمية و النفسية التي يعيشها المراهق و كل ضغوطات المحيط الأسري ، كذلك الثقافة البديلة الجديدة التي فرضت نفسها و اصبحت طابع مميز في هوية الشاب لها دور فاعل في رسم الخطوط العريضة لفترة المراهقة سواء الصعوبات التي قد تدخلها من اضطرابات غذائية على سبيل المثال في رحلة البحث عن الجسد المثالي الذي تروج له الثقافة البديلة ، لكن أيضا تقدم دفعا بواقع المراهق الذي قد تصبح له عزيمة و إرادة للتغيير نحو الأفضل اقتداءا بنموذج معين ، اعتبر أن مراهق اليوم بعيد كل البعد عن المؤثرات الفيزيولوجية و ما لها من دور في صقل هويته ، أرى أن الثقافات الفرعية اليوم هي أبرز عامل في هيكلة هوية المراهق الشاب .. شكرا لك على المقال استاذي ،كل الاحترام و التقدير