نازلة محمـود بن عيّـاد: كبــرى قضايا الفسـاد فـي تـاريخ تـونـس
لا خفاء أنّ مكافحة الفساد أضحت اليوم من الأولويّات المطلقة في بلادنا، تتولّاها الحكومة وبعض الهيئات المختصّة ومكوّنات من المجتمع المدني، وهو ما يحملنا على العودة إلى التّاريخ للوقوف على كبرى قضايا الفساد التّي عرفتها تونس وهي ما يُعرف بنازلة محمود بن عيّاد.
ولعلّ اسم محمود بن عيّاد سيظلّ مقترنا على مرّ العصور بأضخم قضيّة فساد ماليّ في تاريخ البلاد، فقد استنفد بحيله في الاختلاس والتّربّح غير المشروع كلّ ما في دار المال من سيولة وتحوّز من أوامر الصّرف والرّسوم الماليّة التّي تتضمّن ديونا على الدّولة لفائدته ما فاق مداخيل المملكة وثروتها حتّى قال ابن أبي الضّياف في إتحافه: «لو تَمَّ مُراد ابن عيّاد ...كانت المملكة في أسره لوقتنا هذا لكثرة ما بيده من الأوامر والرّسوم».
لم يكن محمود بن عيّاد في بداية أمره سوى أمير لواء، ولكنّه ينتمي إلى أسرة عريقة في التّجارة، ويبدو أنّه استغلّ في ولاية مصطفى باي صداقته الحميمة بوليّ العهد المشير أحمد باي وتسلّل إلى أروقة القصر فصار هو ووالده محمّد بن عيّاد من التّجّار الذّين يزوّدون الدّولة ببعض ما تحتاجه من اللّوازم والمؤن. وتعزّزت مكانته بعد وفاة مصطفى باي وتولّي ابنه أحمد باي الحكم فعُهد إليه بتصدير ما تنتجه البلاد من الزّيت وتوريد ما تحتاجه من الحبوب وغيرها من الموادّ والقيام بما يلزم العسكر من الكسوة.
مصائب قوم عند قوم فوائد
توالت على البلاد التّونسيّة في أربعينات القرن التّاسع عشر سنوات جدب وإمحال تناقص بسببها إنتاج الحبوب فاتّجهت إلى استيراد القمح والشّعير من فرنسا، وهكذا كلّف أحمد باي محمود بن عيّاد بمهمّة استجلاب الحبوب إلى تونس بالأموال التّي سيحصّلها من بيع الزّيت هناك مقابل حصوله على نسبة من تلك الأموال. ولمّا كان بن عيّاد يشرف على ما يُسمّى آنذاك بـ»الرّابطة» وهي إدارة مطامير خزن الحبوب للدّولة (وكانت تقع في المكان الذّي أُقيم عليه المستشفى الذّي يحمل اليوم الاسم نفسه) فقد زعم أنّه اشترى حبوبا من فرنسا غير أنّه استولى على كامل أموال بيع الزّيت وأخرج ما يُحتاج إليه من الحبوب من مخزونات مطامير الرّابطة.
ثمّ سعى لدى الباي إلى أن يُغيّر صيغة إشرافه على «الرّابطة» فعقد معه اتّفاقا سرّيّا تحوّل بمقتضاه من موظّف سامٍ يُدير «الرّابطة» إلى مستلزم يتولّى قبول القمح والشّعير من الفلّاحين على أن يدفع مبلغا معيّنا من المال إلى الدّولة في كلّ سنة وأن يبيعها العشرة مكاييل من الحبوب بسعر الاثني عشر، وسُميّ على هذا الأساس وكيلا للرّابطة.
إلّا أنّه استغلّ كذلك هذه اللّزمة السّريّة لانتهاب الدّولة والفلّاحين معا. أمّا الفلّاحون فإنّه يقبل منهم العشرين مكيالا على أنّه عشرة فقط لحيل عجيبة وطرائق مخصوصة يأتيها الكيّال عند قبول القمح يتضاعف بها حجم البضاعة، وأمّا الدّولة فإنّه يدفع لها ستّة مكاييل على أنّها عشرة بحيل في التّطفيف مُشابهة. وعلى هذا فهو إذا اكتال من الفلّاح يستوفي وإذا كال للدّولة يُخسِر كما جاء في آية المطفّفين. والخلاصة أنّه يُقاضي الفلّاحين النّصف ممّا يستحقّونه ويتقاضى من الدّولة ضعف ما يستحقّ، فاجتمعت له ثروة طائلة من استلزام الحبوب.
والأدهى من ذلك كلّه ما ترتّب عن هذا الفساد من وخيم النّتائج على حال النّشاط الفلاحيّ، فقد زهد الفلّاحون في بذر أراضيهم بسبب الضّيم الذّي لحقهم حتّى كادت أن تنقطع زراعة الحبوب وبقيت الضّيعات مراعي للدّوابّ ومبيتا للوحوش وتفاقم الأمر وانتشر الفقر وصارت دفاتر الأعشار (جمع عُشُر وهو ما يدفعه الفلّاح للدّولة ضريبة على إنتاجه) تأتي من الجهات وأكثر «الهناشر» يُكتَب اسمه مقترنا بلفظ «أبيض» كناية عن عدم البذر.
ومثلما استنبط حيلا لنهب الأموال في لزمة الحبوب استنبط طرائق أخرى للتّحيّل على الدّولة في قضيّة تصدير الزّيت . فلمّا كان مكلّفا بتوريد القمح والشّعير بالأموال التّي يحصّلها من بيع الزّيت فإنّه دبّر حيلة تمكّنه من مضاعفة مرابيحه من هذه العمليّة ، فقد أقنع وزراء الباي بأن يدفع الأموال المتعيّنة من تصدير الزّيت عاجلا مقابل التّخفيض في مقدارها. وهكذا استغلّ محمود بن عيّاد حاجة الدّولة الملحّة إلى المال النّاضّ ليفرض عليها إكراها تسليمه الزّيت المعدّ للتّصدير بأسعار أقلّ ممّا هو معيّنٌ فيُثقل بذلك خسائر الدّولة ويُنمّي أرباحه بغير وجه حقّ.
ومن اللّزمات التّي أُسندت إلى محمود بن عيّاد لُزمة القيام بما يحتاجه العسكر من الكسوة، وقد استغلّ في هذا المجال شغف المشير أحمد باشا باي بالمبالغة في تجهيز العسكر وتكثير عدده ليُطلق يده في تزويد الجيش ويكلّف الدّولة أموالا باهظة، وقد ذكر بعض من اطّلع على دفاتر حساباته بأنّه لا يرضى في الرّبح بمثل رأس المال.
ولمّا تعاظمت مصاريف العسكر ولم يعد بالإمكان خلاصها في إبّانها احتال في إحداث ما كان يُسمّى الرّسوم الماليّة (ضرب من الصّكوك يختمها صاحب الطّابع ويتقاضى حاملها من دار المال المبالغ المنصوص عليها بها) حتّى أنّه عندما طلب من الباي أن يحاسبه على لزمة أكسية العسكر أنتجت المحاسبة أنّ له قِبل الدّولة خمسة ملايين من الرّيالات أخذ فيها تذكرة من الباي مُحصَّلها أنّ المأمور بدار المال يدفع لحامل هذه التّذكرة المبلغ المذكور.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وأمام تفاقم العجز وفداحة الضّرر الذّي لحق بخزينة الدّولة كان لا بدّ أن يُطلع العارفون الباي على حقيقة الأمور فوقف بنفسه على كيفيّة كيل الحبوب عندما شخّص له أعوان الكيل طرائقهم في التّطفيف ورأى بأمّ عينه كيف أنّ نصف «القفيز» من القمح يُصبح ربعا حتّى أنّه صُدم من هول ما اكتشف ولم يحتمل المشهد فأمر خير الدّين باشا بأن يَحضر بقيّة الكيل.
ومن هنا بدأ بن عيّاد يشعر بالخوف ويفكّر في سبيل للنّجاة لا سيّما بعد حادثة «القمح المصري»، فقد اشترى بن عيّاد مؤونة عسكر المحمديّة من قمح مصر وادّعى أنّه من القمح المحلّيّ، فاشتكى قادة العسكر من ذلك فقال لهم: «إنّ المملكة ليس بها قمح كثير وشرائي منها يُغلي السّعر» فرُفع ذلك إلى الباي فأمر أمير لواء العسكر محمّد المرابط أن يقول لابن عيّاد في صحن القصر بالمحمديّة بمحضر أكابر العسكر: «إنّ سيّدنا قال لك: عسكر المحمديّة لا يأكل إلّا قمح تونس فدبّر لهم في ذلك وإلّا ندفعك لهم يأكلونك».
وتعلّل بن عيّاد بأنّه يريد السّفر للتّداوي من مرض ألمّ به وليبيع أوامر تصدير الزّيت فأذن له الباي في ذلك فجمع في الباخرة المعدّة للسّفر أمواله وصناديقه وفيها سائر دفاتره وحجج ديونه وقرارات تكليفه بالمهامّ التّي عُهدت إليه في شراء الحبوب وتصدير الزّيت وفواتير مدفوعاته وسائر ما تحت يده من الرّسوم الماليّة استعدادا للفرار. غير أنّ الطّريف في حادثة هروبه هو أنّ والده محمّد بن عيّاد أبلغ الباي بعزم ابنه على أن يسافر سفر هروب، وقدّم من الشّواهد والبيّنات على صدق زعمه ما لا مجال للطّعن فيه، وذكر له أنّه جمع كلّ دفاتره وسجلّاته ووثائقه وأمواله بما يدلّ على أنْ لا نيّة له في العودة وقال له: «فإن وجدتَ الحال كما ذكرتُه فلك النّظر وإن وجدت الحال بخلافه فدونك والحكمَ فيَّ بما تراه» فأعرض الباي عن ذلك وقال: «إنّ محمّد بن عيّاد صاحب غرض ولو مع أولاده، فأراد أن يحرمني من خديم ناصح مثل محمود وأنا على يقين أنّ ما ذكره لا وجود له، وإذا وجدتُه كاذبا لا أرضى أن أُعاقبه على كذب ظاهره نصيحة»، بل إنّه قال ذلك لمحمود بن عيّاد قبيل سفره: «إنّ والدك أسرّ إليّ بأنّك غير عائد لأنّك حملت معك سائر ما تحتاجه من المكاتيب ولكنّي لم أصدّق ذلك».
وعندما سافر بن عيّاد في 16 جوان 1852 ترك ابنه ونوّابه يقومون مقامه في استخلاص ديونه ومباشرة أعماله وحضّهم على إرسال ما يستخلصونه من المال.
ثمّ نُشر في الصّحف الفرنسيّة أنّ محمود بن عيّاد حصل على حماية الفرنسيّين لأنّ من يملك من الأجانب مسكنا في باريس ويقيم به على وجه دائم ويطلب الحماية فإنّ فرنسا تحميه.
ولم يكتف بن عيّاد بما اختلسه وهرّبه من تونس بل استمرّ في نهب خزينة الدّولة حتّى وهو في فرنسا فبعث مع بعض نوّابه رسوما ماليّة وأوامر في تصدير الزّيت وشرع هؤلاء في صرفها نقدا حتّى أنّ ما دُفع لهم من الرّسوم فاقت قيمته السّيولة الموجودة بالخزينة. ولمّا كثر تردّد نوّاب بن عيّاد على دار المال لصرف ما بأيديهم من الرّسوم أتى وكيلها نسيم بيشي اليهودي إلى مصطفى خزندار وأخبره الخبر فتلطّف في إخبار الباي فحزن وقال: «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، مِن مَأمَنِهِ يُؤْتَى الحَذِرُ». فقرّر خزندار غلق دار المال توقيفا للضّرر ومكاتبة قناصل الدّول الأجنبيّة لإعلامهم بذلك. وصادف هذا الظّرف دقّ طبول الحرب بين الدّولة العثمانيّة وروسيا القيصريّة، وقد جرت العادة أن توجّه تونس عسكرا لمناصرة إسطمبول في حروبها فاضطرّ الباي أن يجمع سائر ما في خزائنه من المصوغ والأحجار الثّمينة والجواهر النّفيسة وتبرّع وزيره مصطفى خزندار بجميع ما عنده من ذلك حتّى حليّ زوجته أخت أحمد باي وبعثوا بجميع ذلك إلى خير الدّين لبيعه في فرنسا فامتثل وبعث الثّمن وقدره نحو المليوني فرنك أُنفقت في لوازم العسكر الذّي بُعث للدّولة العثمانيّة. ثمّ تحوّلت سرقات محمود بن عيّاد إلى قضيّة لدى المحاكم الفرنسيّة باشرها في البداية الوزير جوزيف رافو ثمّ عُهد بها إلى خير الدّين باشا الذّي قضّى بفرنسا سنتين كاملتين وانتهى بفضل صادق جهده وعمق شعوره الوطنيّ إلى إنصاف الدّولة التّونسيّة حيث قضت الأحكام الصّادرة بعد طول نزاع إلى أنّ كلّ ما قدّمه بن عيّاد من رسوم ماليّة وأوامر في سراح الزّيت لاغ ولا يُعتدّ به وأنّ ما أخذه من أموال عينيّة من دار المال يردّه. وهي من أهمّ مآثر خير الدّين ومزاياه على الدّولة التّونسيّة.
والحقّ أنّ هذه النّازلة تكشف إعاقات نظام الحكم وطرائق تسيير الدّولة في تلك الفترة. فمع رسوخ تقاليد الحكم الفرديّ المطلق وغياب أدنى أشكال الرّقابة الإداريّة والماليّة وافتقار الدّولة إلى جهاز تشريعيّ يحمي مصالحها ومؤسّسات تُرشّد تصريف شؤونها تُفتح أبواب الفساد على مصراعيها وتُمهّد سُبل انحدار الدّول وتفكّكها وسقوطها، وهي لعمري من أعظم عبر التّاريخ ودروسه، إذ «التّاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق».
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق