استفتاءا كردستان العراق وكاتالونيا: التــداعيـات الجديـدة
ثلاثة أشهر بعد إعلان استفتائي كردستان العراق وكاتالونيا، تغيّرت الأوضاع في الإقليمين داخليا بحيث أصبح ممكنا الحديث عن واقع ما قبل الاستفتاء وما بعده. وإن لم يتبيّن بعد أفق الحلّ للأزمات التي أسفر عنها الاستفتاءان، فإنهما أعطيا أملا لشعوب أخرى للنسج على منوالهما، مما قد يساهم بمرور الوقت في تغيير الخارطة الحالية للعالم.
لا أحد يشكّ اليوم أنّ «المغامرة الانفصالية الكــردية» عـادت بالوبـال العظيـم على إقليم كردستــان العراق بحيث أنّ تداعياتها السلبيــة لم تنقطع فكلّ يوم يحمل أزمة جديدة في الإقيلم واضطرابات تعصــف باستقراره وترسم سيناريـو غامض لمستقبله.
فبالعودة إلى الأحداث التي جـرت بعد الاستفتاء، نجد أنّ تغييرات كبيرة حصلت سواء على المستوى السياسي أو العسكري أدخلت الإقليم في نفق مظلم لا يعرف متى سيخرج منه. فبعد يوم من إجراء استفتاء الانفصال في 25 سبتمبر 2017 أعلنت حكومة بغداد وقف الرّحلات من مطارات أربيل والسليمانية وإليها، كما بسطت نفوذها على معظم المعابر الحدودية لإقليم كردستان. ثمّ إثر ذلك بثلاثة أسابيع وتحديدا في 16 أكتوبر، شنّت القوّات العراقية بالتّعاون مع ميليشيات الحشـــد الشّعبي المدعــــومة من إيران هجومـا على كركوك لاستعادتها من أيدي قوّات البشمركة وتمكّنت من ذلك بسهولة بعد انسحاب القوات الكردية، مما تسبّب في تشرّد 150 ألف من سكّان كــركوك الذين لجؤوا إلى السليمانية وأربيل وإقالة محافظ المدينة، بالإضافة إلى اندلاع اشتبكات بصفة دورية بين مختلف المكوّنات الإثنية فيها من أكراد وتركمان وعرب. ولم يتوقّف هجوم القوات العرقية عند كركوك وإنّما شمل كل المناطق التي أخذها الأكراد بعد تحريرها من قبضة داعش وتلك المتنازع عليها في محافظات نينــوى وصلاح الدين وديالى ليقتصر نفوذهم على مناطقهم التاريخية قبل 2003.
سيطرة القوات العراقية على كركوك تسبّبت في خسارة الأكراد، عدا الأرض، لحقول مهمة من النفط كانت تؤمّن نصف إرادته النفطية.
هذه الخسارة العسكرية والإقتصادية كانت لها بالطبع انعكاساتها على الوضع السياسي في الإقليم حيث اضطرّ رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، الذي كان يحلم بأن يدخل التاريخ كمؤسّس الدولة الكردية المستقلّة، إلى أن يستقيل من منصبه ويوزّع صلاحياته بين رئاسة الحكومة والبرلمان ومجلس القضاء وذلك في 29 أكتوبر 2017.
تلت استقالة بارزاني استقالات في الحكومة ومطالبة بالإطاحة بها وتكوين حكومة وطنية وجاءت مؤخّرا استقالة رئيس البرلمان لتعاضد الأزمة السياسية الخانقة في الإقليم. وقد فضحت هزيمة الأكراد في كركوك الانقسامات الداخلية داخل الإقليم، حيث انحاز قسم من الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة هافال طالباني، أحد أبناء الراحل جلال طالباني، إلى القوات العراقية وســـاعدهم في بسط نفوذهم على المدينة ليخلق بذلك شرخا في الجبهة الكردية إلى حدّ أنّه تمّ اتهامه بالخيانة من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم.
من جهة أخرى، شهدت بعض الأحزاب التاريخية الكردية انقسامات داخلها مثل الاتحاد الوطني الكردستاني بعد أن انفصل عنه نائب أمينه العام، برهم صالح، ليؤسّس حزبا جديدا باسم «التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة».
وأدّت هذه الانقسامات الداخلية إلى تأجيل الانتخابات التي كان من المزمع تنظيمها في نوفمبر 2017 وتمديد عمل البرلمان لمدّة ثمانية أشهر.
بالتّوازي مع تعقّد الوضع السياسي، اندلعت في منتصف شهر ديسمير احتجاجات شعبية في السليمانية حول تأخّر صرف الرّواتب التي تمّ تخفيضها إلى النّصف في وقت سابق. الحكومة المرتبكة لم تجد حلاّ سوى مواجهة المحتجّين عبر إطلاق النار عليهم لتوقع عددا من القتلى والجرحى فيزداد الاحتقان أكثر والغضب من السلطة الحاكمة حاليا في الإقليم واتّهامها بالفساد والاستيلاء على أموال النّفط، ممّا تسبّب في تراكم الديون لتبلغ حوالي 20 بليون دولار.
ويزيد الطّين بلّة، إعلان حزب العمّال الكردستاني- المتمركز في جبال قنديل بإقليم كردستان العراق- هذه المنطقة إقليما ذاتيا يحمل إسم «إقليم قنديل» وذلك عبر نشره يوم 24 ديسمبر 2017 بيانا أعلن فيه عن تأسيسه بحضور أكثر من 300 شخصية سياسية من أعضائه.
في الأثناء، يزداد الضّغط من قبل حكومة بغداد التي لا تقبل إلى حدّ الآن باستئناف التفاوض مع حكومة أربيل لحلّ المسائل العالقة وأهمّها إرسال حصّة الإقليم من الميزانية لتمكينه من دفع رواتب موظّفيه.
ولم يكف تجميد نتائج الاستفتاء بل ظلّت حكومة بغداد تطالب الأكراد بإلغائه كشرط لاستئناف الحوار مع أربيل، بالإضافة إلى تسليمها كلّ المعابر الحدودية. وتحاول بغداد من خلال هذه الشّروط الضّغط أكثر لتحسين شروط التّفاوض والحصول على مكاسب أكبر، خـاصّة وأنّ الإقليم يبدو على وشك الانفجار سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
فوز الانفصاليين من جديد في كاتالونيا وتعمّق الأزمة مع مدريد
في إقليم كاتالونيا، تتواصل الأزمة بين حكومة المركز وحكومة الإقليـم رغم التطوّرات الأخيرة. فبعد رفض نتائج الاستفتاء من قبل مدريد وحلّها الحكومة والبرلمان الكتالونيين ومحاكمة ممثّلي الحركة الانفصالية ممّا دفع برئيس الإنفصاليين، كارلوس بوجديمون إلى اللجوء الى بلجيكا، انتظمت يوم 21 ديسمبر 2017 انتخابات تشريعيّة مبكّرة في إقليم كاتالونيا لتسفر عن تحصّل الانفصاليين على الأغلبية في البرلمان.
هذا التقدم للإنفصاليين وضع الحكومة الإسبانية أمام أزمة جديدة وضرورة استئناف الحوار مع كاتالونيا. وكان رئيس الوزراء الاسباني، ماريانو راخوي أعلن أن الجلسة الأولى للبرلمان الجديد لاقليم كاتالونيا ستعقد يوم 17 جانفي 2018 كما أكّد أن الحكومة الإسبانية مستعدة لإجراء حوار مفتوح مع الحكومة التي ستتشكل في الاقليم. في الأثناء، طالب بوجديمون نظيره راخوي باللقاء خارج إسبانيا لايجاد حل للأزمة ولكن الأخير رفض ذلك.
وفي خطاب رأس السنة وجّه زعيم الانفصاليين نداء إلى مدريد لإعادة الحكومة الكاتالونية التي تمّ حلّها وبذلك إعادته إلى منصبــه على رأسها.
مدريد من ناحيتها أعلنت على لسان وزير الاقتصاد عن حجم الخسائر الاقتصادية التي كلّفتها الأزمة مع الإقليم حيث وصلت إلى حدود مليار يورو، فقد أصبح إقليم كاتالونيا الذي كان يساهم بنسبة 19 بالمائة من النّاتج الدّاخلي االخام لإسبانيا عبئا اقتصاديا عليها بسبب ضعف النمو الاقتصــادي. وكانت أكثر من ألف شركة نقلت مركز نشاطها من الإقليم إلى خارجه نتيجة الأزمة السياسية.
في هذه الظّروف أصبح من الضّروري بالنّسبة للطرفين الجلوس على طاولة الحوار ولكن على أيّ أساس؟ فالإقليم لا يزال يطالب باستقلاله أو على الأقلّ وفي أحسن الحالات، يرغب في التمتع بكامل موارده على أن يعطي حصّة بسيطة من الضّرائب إلى الحكومة المركزية. أمّا مدريد فلا تبدو مستعدّة للتخلي عن إقليم كاتالونيا ولا عن مساهمته الكبيرة في تمويل اقتصادها.
ماذا بعد؟
من الواضح أنّه لا بديل عن استئناف الحوار بين الحكومة المركزية والحكومة الانفصالية، سواء في إقليم كردستان العراق أو في كاتالونيا أمام تعمّق الأزمة السياسية والاقتصادية فيهما وكذلك أمام الضّغوطات الدولية لإيجاد حلول عاجلة.
وأيّا كانت التطورات التي ستحدث وما ستسفر عنه من حلول قد تكون موجعة، فإنّ هناك تغييرا جذريّا حصل على مستوى وعي الشّعوب لا يمكن تجاوزه وهو ما سيجعلها تحاول تحقيق حلم الانفصال من جديد متى تهيّأت ظروف أفضل لذلك. كما أنّ المحاولتين السّابقتين وإن فشلتا، خفّزتا أقلّيات أخرى تطمح هي أيضا إلى تحقيق استقلالها الذّاتي ســواء في إيطاليا أو فـرنسا أو في بلدان أخرى وهو ما سيجعل خارطة العالم تشهد تغيّرات في السنوات القادمة..
حنان زبيس
- اكتب تعليق
- تعليق