عبد الحفيظ الهرقام: تونس من الـتّـوافـق إلى التّـوافق العامّ
هــل هو مؤشّر جدّي لتغيّر عميق في الموقف إزاء حليف الأمس يعيد بناء التوازنات القائمة على نحو يفضي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي، أم هو مجرّد تكتيك انتخابي لتعزيز موقع الحزب قبل الاستحقاقات القادمة؟
يتبادر إلى الذهن هذا السؤال عند الاطّلاع على الوثيقة السياسية الصادرة عن الندوة الوطنية للإعداد للانتخابات البلدية التي عقدتها يوم 6 جانفي الجاري حركة نداء تونس حيث أعلنت فكّ الارتباط بحركة النهضة، حليفها بعد انتخابات 2014 مؤْثرة تبنّي «الرؤية الواضحة والمتفرّدة والمتمايزة عن رؤية بقية المنافسين» على مستوى مشروعها المجتمعي والسياسي، «والمتمثّل في الخطّ الوطني الإصلاحي الحداثي».
هذا التعديل في المسار الذي يأتي بعد أن فقد النداء ثقة جزء كبير من ناخبيه يبدو منطقيا، إذ يخضع لقاعدة كان من المفروض اتّباعها في أيّ نظام ديمقراطي تقضي بأن تتولّى فيه الأغلبية الحكم لتنجز برامجها احتراما للإرادة العامّة، في حين تضطلع المعارضة بوظيفة النقد ومراقبة آداء الحكومة المنبثقة عن هذه الأغلبية. هل انتهت بذلك سياسية «التوافق» التي لطالما دافع عنها الرئيس الباجي قايد السبسي والسيد راشد الغنّوشي بوصفه خيارا فرضته نتائج الانتخابات التشريعية وإكراهات الفترة الانتقالية؟ هل تأكّد الاقتناع بأنّ هذا «التوافق» الذي اعتبره الكثيرون مغشوشا مثّل بالفعل عنصر شلل لمسيرة البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؟
إنّ قراءة متأنيّة في بيان «النداء» تجعلنا نقف في مستوى لعبة الخطاب -وكم هي مهمّة في مجال السياسة- على مصطلح «التوافق العامّ»، وهو مصطلح- مفتاح لا يلغي التوافق مبدأً، بل يدرجه في إطار أسمى ينهي التنسيق بين الأحزاب المعطّل للتمايز والتنافس لينصبّ الاهتمام على «المصالح العليا للدولة والبلاد».
وسرعان ما تلقّفت هذه الرسالة حركةُ النهضة التي أكّد الناطق الرسمي باسمها أنّ «المنافسة مفيدة للديمقراطية في البلاد» وأنّها «لا تتنافى مع مبدأي الشراكة والتوافق».
وفي حقيقـــة الأمــر فإنّ اجتناب حركة النـــداء منطق القطيعة مع اعتبار وثيقة قــرطاج الإطار السياسي الوحيد الذي يجمعـــها ببقية شركائها في الحكم بما فيهم حركة النهضة ليس إلّا تناغما مع سياسة رئيس الجمهورية الحريص على المسك بزمام اللعبة السياسية من خلال الانفتاح على كلّ التيارات والمنظّمات وتوطيد أسس الحوار وتوسيع دائرته، في ظـــرفيّة حــرجــة طغت عليها التجاذبات وفِي بداية سنة ستكون «فـــارقة»، حيـــث ستشهد الانتخابات البلدية -ومعها ينطلق مسار إرساء اللامركزية- وخلالها تتأكّد أهميّة البحث في المنوال التنموي الجديد ومعالجة قضايا جوهريّة كالتنمية الجهويّة والتشغيل والاستثمار وتطوير المنظومة الصحيّة والنهوض بالمدرسة العمومية، فضلا عــن تسريع نسق الإصلاحات الكبرى ومواصلة الحرب على الإرهاب ومقــاومة الفســاد.
ولا مراء أنّ هذه القضايا ستكون، إلى جانب ملفّات أخرى حارقة، محور نظر وتمحيص في الحوار الاقتصادي والاجتماعي الذي أقّرت تنظيمه الأطراف الموقّعة على اتفاق قرطاج في اجتماعها الأخير بإشـراف رئيس الدولة بعـــد أن غدا الجميع مقتنعا بجدوى إقامة هذا الحوار، دعما للاستقرار السياسي ودفعا للعمل التنموي وتهيئةً لظروف السلم الاجتماعي.
فمثلما جنّب الحوار الوطني في سنة 2013 تونس الوقوع في أتون الفتنة والاحتراب الأهلي، من شأن الحوار الاقتصادي والاجتماعي أن يساعد البلاد على الخروج من نفق أزمتها المالية المستحكمة وأن يجعل الديمقراطية التونسية الناشئة التي يُنظر إليها في الخارج بكثير من التقدير والإعجاب مولِّدة للتقدّم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، ومؤسِّسة لوعي جمعي يثمّن المشترك ويمتّن أواصرالعروة الوثقى بين التونسيين في هذه الظرفية التي لا تخلو من مخاطر اقتصادية وأمنية جمّة.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق