الدكتور صالح المهدي (1925 – 2014) »زريـاب« تونـس
من ألمع وجوه الثقافة والفنّ، في البلاد العربيّة قاطبة، الأستاذ الدكتور صالح المهدي، الذي جمعَ، إلى ثقافة القانون، ثقافة الأدب والفنّ، وبراعة العزف على الناي والعديد من الآلات، متوّجا كلّ هذه المهارات بحذق الأساليب الإداريّة، والإلمام بقواعد التنظيمات الدُوليّة – مع شهرة بالاستقامة لم تنقطع، في السلوك الشخصي، وفي التصرّف الإداري.
ولقد تدرّج، في اقتحام هذه المجالات، الواحد بعد الآخر، وبلغ فيها جميعا مبالغ عالية، وهو لا يكاد يتجاوز ريعان الشباب.
وحَسبُه أن كان لقب «زرياب» – الذي اختاره لنفسه – شاملا للدور الذي كان يتطلّـع إليه، إذ كان من أوائل مَن طرقوا أبواب الفنون الموسيقيّة عن جدارة ثقافيّة، وعن موهبة فنّية ، وعن أرومة عائليّة متأصّلة، حتى صار ذلك عنده سلوكا حضاريّا.
فقد دخل الميدان الفنـّي، قويّا بما لقّـنه والده الذي عُنِي بتوجيهه منذ صباه ؛ ودخل سائر المجالات الأخرى، بما تهيّأ له من تكوين مدرسي، وثقافة زيتونيّة، وتضلـّع من الحقوق.
أمّا المحطّـة التي انفرد فيها بإشعاع وطني، ثمّ بسمعة عربيّة واسعة، فبدأت بعد إنشاء كتابة الدولة للشؤون الثقافيّة، في مطلع الستّـينات، لمّا عزم الرئيس الحبيب بورڨيبة، بعد أخذٍ وردّ، على إحداث وزارة تهتمّ بالقطاع الثقافي.
فقد كان الرئيس متردّدا في ذلك، لاشتهار الدول الشيوعيّة بهذا الاختصاص الوزاري؛ وكان يتحاشى الاقتداء بها، لإيمانه بأنّ الثقافة، بدون حرّية الإبداع، لا خير فيها لأهلها، ولا للبلاد عامّة.
ثمّ طرأ، في تنظيمات الحكومة الفرنسيّة، ما أقنع الرئيس أنّ الممارسات الشيوعيّة، في أعمال هذه الوزارة، يمكن تفادي سلبياتها، بفتح أبواب الحرّية، والسعي لنشر الحركة الفكريّة. وكان من حظّ هذه الوزارة الناشئة أن اجتمع في رحابها، ومن حولها، ثلّـة من أهل الفكر ومن أصحاب الاختصاصات الفنّية الأفذاذ. ومن حظّ هذه الوزارة، كذلك، عند أوّل إحداثها، أن كانت تربط علاقة ٌ حميمة بين من كـُلّـف بمسؤوليّتها، وبين الوزير المشرف على التعليم، إذّاك – الأستاذ محمود المسعدي. فلم يمانع من نقل المدير صالح المهدي إلى الوزارة الجديدة، لِيقوم فيها بإدارة قطاع اختصاصه – على أن يواصل النظر فيما كان بعهدته من تعليم الموسيقى، بالمدارس الثانويّة. وكانت الرغبة في استلحاقه أكيدة، إذ كان وفّـق في قيادة أعمال هامّة تتّصل بنشر الثقافة الموسيقيّة، وعَلت فيها شهرته.
وكان استمراره في الإشراف على التعليم الموسيقي بالمعاهد الثانويّة ممّا أكّـد أواصر التعاون بين الوزارتين لِما فيه غنم للطرفين؛ وفتح الطريق، فيما بعد، إلى إحداث أنشطة مسرحيّة للطلبة الجامعيّين، ساعدت على تنظيمها إدارة المسرح بالشؤون الثقافيّة.
وأوّل ما توجّه إليه اهتمام الرجل، بعـد انتقاله إلى الوزارة الجديدة، تقييم جدوى الدروس في معهد الموسيقى، ثمّ إحداث فروع له في داخل الجمهوريّة، تطوّرت واتسعت أعمالها، إلى أن استقلّت تدريجيّا، بشؤونها الخاصّة؛ فكانت نقط إشعاع للثقافة الفنـّية في مختلف مناطق البلاد.
وفي نفس الوقت انتظمت، داخل الولايات، حركة شملت سائرالأعمال الثقافيّة، برعاية «اللجنة الثقافيّة القوميّة». وكان ذلك مُؤَكّـدا لِما توجّهت إليه الوزارة من دعم لمختلف الاجتهادات الجهويّة، حتى يكون العمل الثقافي شاملا لها، متغذيا ممّا يتدفـّق منها، فيكون العمل الثقافي صورة حيّة لِما يعتمل فيها جميعا من إبداع وابتكار. وقد تحمّس سي صالح لإنجاح هذه التجربة النموذجيّة، ورعاها بكلّ جهوده لمّا اضطلع، أثناء مسيرته الإداريّة، برئاسة «اللجنة الثقافيّة القوميّة» التي وظيفتها التنسيق بين اللجان الجهويّة، ومتابعة كلّ ما يتعلّـق بالشؤون الثقافيّة في الولايات.
وبانصهار مختلف هذه الأنشطة، وتفاعلها في تركيز الاهتمامات الثقافيّة، وإثارة الاجتهادات الفكريّة والفنّية، بدأت تظهر ملامح ثقافة تونسيّة جديدة: عريقة في عروبتها، متأصّلة في انتمائها الوطني، متفتّـحة ٌ على المنازع الإنسانيّة، آخذة بسُبل التطوّر والنموّ. وكان ذلك من محاور العمل الذي قصدت إليه الوزارة المستحدثة: أعنـــي إخراج الحركة الثقافيّة من الانحصار في العاصمة، وجعلها تشعّ من ســـائر المدن، شاملة لوجوه من الفنون لم تكن قبلُ تـُعتبر من الثقافة.
وازداد دور الأستاذ صالح المهدي أَلقًا، بتنظيم العديد من المِهرجانات الفنّية: في طليعتها مِهرجان طبرقة الدولي للفنون الشعبيّة. فقد أقدم على تنظيمه بجرأة نادرة، لأنّ وسائل الوزارة إذاك كانت ضئيلة، وعلاقاتها الخارجيّة محدودة. لكن المفاجأة أنّ هذا المِهرجان كان ناجحا بكلّ المقاييس؛ وانتشر الاقتداء به في أنحاء من البلاد – وخارجها أيضا. وكانت فيه عُدة تونس نواة ما سُمّي بفرقة الفنون الشعبيّة، التي ساهمت في إيصال صيغ فنـّية مهذّبة إلى سائر الأرياف. وأذكر أنّ سي صالح كان يُلحّ على أعوانه أنيَنطقوا «مِهرجان» - بكَسر المِيم، تبعًا للأصل الفارسي. فقد تصدّى سي صالح لِتهذيب الذوق الشعبي، بغربلة الكلمات، وإدخال تقنيات الحراك الفنـّي في الرقص؛ وكان، في كلّ ذلك، ساعيا إلى التّحديث، مع الوفاء للجذور، وتيسير الابتكار بما يتماشى مع أذواق المجتمع. كما اهتمّ الأستاذ المهدي بجمع التراث، في المجالات التابعة لأنظاره ؛ أخصّ بالذّكر منها ما كان يسمّى بـ«الشعر الملحون» والذي أَطْلَق عليه الرئيس بورڨيبة اسم «الشعر الشعبي». وكذلك اهتمّ بإمعان النّظر في لغة «المالوف»، والمقارنة بين أندلسيات الذّاكرة، في كلّ قـُطر من بلاد المغرب العربي الكبير.
وكان لِمهرجان المالوف، ولإشعاع الجمعيّة الرشيديّة – التي أغتنم الفرصة لأحيّي دورها التاريخي في الحفاظ على التراث الوطني – فضل كبير في نشر الافتنان بنوبات المالوف في أوساط الشباب ؛ فكان ذلك ممّا ثبّت فيهم الميل إلى الفنّ الشرقي، في ظرف كانت العولمة تحمل إليهم أنماطا مُغرية، من شأنها، لو تُـرك لها المجال، أن تُـهجّرهم عن فنون حضارتهم.
وساهم أيضا الأستاذ المهدي في نسج علاقات مع الأجوار، بشتّى الوسائل، وخاصّة بفتح معاهد التعليم الفنّـي لأبناء الجزائر وليبيا.
ومن أهمّ ابتكارات الفقيد – التي نعتزّ بها بصورة أخصّ – إحداث قسم يُعنى بما يُسمّى بفنّ «التّجويد»، لِتلقين مخارج الحروف وقواعد التلاوة الملحنة، ولتحقيق حسن التناغم بين الأصوات ومعاني الآيات.
وإلى جانب خصاله الذاتية، عُرف المرحوم بتلاحين رائعة، مختلفة المشارب ؛ أوّلها – فيما قال لي – أناشيد وطنيّة، أمدّ بها الشعبة الدستوريّة التي كان منخرطا بها قبل الاستقلال. ولعلّ من طرائف أعماله، قطعةً مُزجت فيها الروحيّة الشعبيّة بالذوق المتطوّر، وهـــي «القطعـة – النشيـد» المعروفــة ب: «سيّد الأسياد» – والتي كَلِف بها المجاهد الأكبر، وهو إذّاك في قمّة مداركه.
وممّا أعتزّ به شخصيّا، أثناء تشرّفي بالعمل في رحاب الشؤون الثقافيّة، أن انعقدت، بيني وبين «زرياب» تونس، روابط تعاون ومودّة، تواصلت إلى أواخر أيّام الفقيد، رحمه الله، وجازاه خير الجزاء.
وختاما، فلا نبالغ إذا قـُلنا إنّ العمل الذي قام به فقيدنا العزيز، في مختلف المجالات التي ذكرناها، يُعدّ من أهمّ إنجازات الوزارة، منذ أوّل انطلاقها.
الشاذلي القليبي
- اكتب تعليق
- تعليق