العقيد محسن بن عيسى: الحصاد السياسي؟
يِؤمن العديد من المفكّرين أنّ التاريخ هو المدرسة الحقيقيّة للسياسة، وأنّ كلّ النظريات على أهمّيتها لا يمكن أن تضاهي البعض من دروسه وخاصّة منها القاسية والدّامية. والحقيقة أن كلّ الشّعوب في حاجة لاستحضار تاريخها والاستلهام منه تفاديا لتكرار الأحداث والوقائع السابقة بأدوات جديدة وعوامل مختلفة.
لقد عانت تونس سابقا من تلاعب السياسيين بالمواطنين لتمرير رسائل معيّنة وأجندات خاصّة ولصناعة رأي عام مزيّف يتماشى مع برامجهم ومخطّطاتهم، وقد كان النظام السابق يُظهر غير الذي يُضمر، فخدع الشعب و جعله يعتقد أنه يعيش "مُعجزة تونسية" ويَنْعَمُ في "بلد الفرح الدّائم"، والحال أنّ البلاد كانت تعيش غيابا لفكرة الدولة واضمحلالا لمعنى الوطنية واستقالة من المواطن وتغيّرا في طبيعة العلاقات.
لعلّ الكثير قد تابع التصريحات الرّسمية الأخيرة التي تفيد أنّ السّنة المُنقضية اتّسمت ببعض النجاحات وأنّ تونس استطاعت العبور إلى برّ الأمان، ولقد كانت تصريحات على أعلى مستوى ولكن للأسف تَبيّن أنها فاقدة للأدلّة التي تُؤكّدها، ولقد أصبح َتبيان الحقيقة وفحص المعلومات المتداولة على لسان الشخصيات الرسمية تحدّيا جديدا تقف أمامه الصّحافة و وسائل الإعلام لدينا.
و جاء الرّد سريعا على لسان أحد الخبراء الاقتصاديين الذي صرّح بأنّ هناك مغالطات كبرى في الخطاب الرسمي، مقدّما عدّة توضيحات أهمّها أنّ نسبة التضخّم في تونس تبلغ 6.3% وهي نسبة مرتفعة جدا، كما بيّن أنّ التونسيين ليسُوا متساوين أمام التضخّم المالي وأنّ هناك إعادة توزيع للثروة ولفائدة الأغنياء على حساب الطبقة الوسطى، مضيفا أنّ تكلفة الارتفاع الطفيف في نسبة النمو المسجّل والمعلن عنه كانت مرتفعة جدا. واستخلص أمام تضارب الواقع مع التصريحات أنّ هناك مشكل مصداقية وثقة بين الحاكم والمحكوم، وعلى الباحث عن المعطيات الدقيقة الرجوع إلى تقرير البنك المركزي التونسي.
ماذا نصدّق؟ .. وبمن نثق؟
لا شك الآن أنّ واقع البلاد صعب وأنّ عديد الملفّات لازالت عالقة وتحتاج إلى إعادة دراستها والسّعي إلى معالجتها، ويبدو أنّ الحلول النّاجعة لازالت ممكنة ولكن بمقاربة أخرى تأخذ بعين الاعتبار رأي الخبراء والفنيين والباحثين الذين يشكّلون طليعة الرأي العام الوطني.
هناك خبرة لا يستهان بها، ومن المفروض أن تكون مستقبلا الشريك الأساسي في صنع القرار لتفادي الافتراضات الخاطئة وتجسيد شرعيّة السلطة وتثبيت وجودها.
كيف يُصنع القرار والرأي العام "الحقيقي" وليس "المزيَّف" يتساءل إلى أين تسير البلاد ؟ إنّ صناعة القرار لها أصول وتقنيات ومناهج، وفي هذا السياق نحتاج فعلا إلى مراجعات ولكن ليس على مستوى مبادئنا وقيمنا.
إنّ التّطمينات التي نحتاجها سياسية بالأساس، فقد انهار النمط السياسي الحزبي بكل تجلّياته لدينا، وفقدت رموزه بمقتضى ذلك تأثيرها في محيطها، ولذلك نراها تبحث جاهدة عن تعويض ذلك بالحضور المكثّف في وسائل الاعلام واسترضاء الشارع عبر زيارات "فلكلورية"، فاللّعبة السّياسية أصبحت فعلا مزيّفة وغير سليمة.
إنّ المسؤولية اليوم تقع على جميع الفعاليات دون استثناء في تسيير الشأن العام وإعطاء "الرأي العام" مكانته الاستراتيجية والتعرّف على موقف الشعب من القضايا الراهنة.
هناك قناعة بأنّ اعتماد السلطة على الرأي العام يفتح المجال لبناء نظام سياسي جديد وقوي، نظام يرفض القوالب التقليدية الجاهزة و يعمل على الانتقال بمختلف التّيارات من الخطب والعكاظيات إلى الانخراط الفعلي في استراتيجة إصلاح تتعامل مع مختلف الأفكار و تسير بالبلاد نحو "التجديد الداخلي" .
إنْ كُنّا نريد القيام بواجبنا تجاه البلاد، فلا بدّ من إعادة النظر في أساليبنا في ممارسة السياسة وتأسيس السلطة.
لست هنا في موقع النقد البنّاء أو الهدّام، ولست على نهج التشفّي والانتقام، ولكنّي كنت وسأظل مع تأصيل وتعزيز القيم وفي مقدمتها الولاء للوطن. لم يعد التطرّف منحصرا في الغلوّ في الدين والتشدّد فيه، بل تجاوز ذلك ليرتبط بالعنف الأيديولوجي ويصيب بعض الأحزاب بحالة من التطرّف السياسي، هذا التطرّف الذي يبدأ بالفرز والتصنيف وينتهي بالسبّ والتطاول والتخوين. ولقد أصاب النّفاق السياسي اللحمة الوطنية في مَقْتَل، ولم يشهد تاريخنا السّياسي سابقا رغم الاهتزازات التي شهدتها البلاد مثل هذه الممارسات.
ليس غريبا في ظل هذه الحقائق أن يشير "نبض الشارع" إلى انكسار حاجز الخوف داخل المجتمع لتجاوز القوانين، وتنامي ثقافة العنف والتطاول على الآخرين، واستفحال أزمة الثقة بين النُّخب والمواطنين.
صدق الجنرال شارل ديجول حين قال..إنّ السياسة موضوع أخطر بكثير من أَنْ نَتركه للسياسيين.
العقيد محسن بن عيسى
متقاعد من سلك الحرس الوطني
- اكتب تعليق
- تعليق