الأمن والسلم.. بين قوّة الشرعية ومنطق القوّة

الأمن والسلم.. بين قوّة الشرعية ومنطق القوّة

سجّلنا بكل ارتياح تصويت الأغلبية في الجمعيّة العامة ضد قرار ترامب بالرغم من التهديدات التي وجّهت بقطع المساعدات على أي بلد يصوّت خلافا للخيار الأمريكي، وكان تصويت 128 دولة ضده عبارة عن تحدّ ورفض جماعي لمنطق الابتزاز وتكريس صريح  لدور الجمعية العامة وفقا لمبادئ الأمم المتحدة ومقاصدها. ويأتي هذا الموقف الدولي المشرّف بعد فشل مجلس الأمن في اعتماد مشروع قرار مصري يعارض قرار الرئيس الأمريكي بشأن القدس المحتلّة باستخدام حق النقض "الفيتو، رغم تأييد 14 دولة.

أي منطق بات يحكم الولايات المتحدة؟ فمن الخطير أن يدير ترامب القضايا الدوليّة بعقليّة رجل أعمال، وعلى الدول المعنية بتهديداته وخاصّة العربية أن تتحرّر من هذه التبعيّة المُهينة قدر الإمكان واستنهاض الكرامة الوطنية في هذا المجال.

ليس لي أن أذكّر بأن الولايات المتحدة عملت على احتكار القوّة في النظام العالمي، وبناءً على ذلك وجدت عديد الدول نفسها في حاجة إلى أن تقيم علاقات وبرامج تعاون معها بحكم الاحتياج إليها، وغاب عن أذهان البعض وأنّ الفوضى الدولية الراهنة، هي تعبير عن هذا النظام الذي كان مجحفا بحقوق عديد الدول ومصالحها.

أعتقد أن هناك إجماعا على أنّ العالم لا يمكن أن يستمر في ظل شرعية دولية تواجه صعوبات لتنفيذ قراراتها وتعنّت بعض الدول والقوى النافذة لتطبيقها، فالقضية السياسية والأخلاقية التي نواجهها، هي قضية الفجوة القائمة في العلاقات الدولية بين الواقع المتمثّل في الاستعمار والهيمنة وبين الطموح إلى بناء عالم أفضل.

إن نظام الأمن الجماعي بالرغم من أهميته في مجال حفظ الأمن والسلم، لازال يواجه صعوبات في معالجته لعديد القضايا، ويعتبر ذلك انعكاسا لواقع المجتمع الدولي الذي يعيش انقساما بين منطق القوة و قوة الشرعية.

لقد حقّقت الأمم المتحدة منذ 1945 نجاحات وإخفاقات، واعتبارا لما تتّسم به المرحلة الحالية من عدم استقرار وبحكم العزلة التي بدأت تُواجهها الولايات المتحدة، فإن إدارة ترامب ستعمل من خلال "الفيتو" على مزيد تكريس عجز الأمم المتحدة، وتثبيت مقاربتها" القرار والنفوذ لمن يدفع". لذلك على المجتمع الدولي أن يسرّع من نسق إصلاح المنظمة الدولية لمدى أهمّيتها في حماية المصالح القومية الأساسية لكل الدول والمتمثلّة في حماية الكيان المادي والسياسي والثقافي لها وتأمينها من الأخطار والتهديدات القائمة والمحتملة.

لقد أبدى المجتمع الدولي وعيا متزايدا لحفظ آلياته وهيئاته من خلال الحركة المتنامية التي سجّلت لدراسة تصوّرات جديدة  للأمن الدولي، وذلك عبر رؤيتين.

الرؤية الأولى: تطرح فكرة الاستئناس بالمثال الأوروبي المعتمد في ضمان الأمن والسلم بين أعضائها واعتماده دوليا بحكم النتائج الإيجابية التي حقّقها والتي فاقت بكثير انجازات الأمن الدولي. 

الرؤية الثانية: تشير إلى الخوف من تداعي المؤسسات الدولية التي تم استحداثها تباعا منذ 1945، وانهيارها وقيام نظام دولي أحادي توسّعي ذي هيمنة وتسلّط.

وتذهب أغلب الأطروحات في اتجاه دعم خيار الحفاظ على الأمن الجماعي في إطاره الدولي المتعدّد الأطراف على أساس أنه ليس بإمكان أيّ دولة مهما كانت درجة قوّتها أن تتحكّم في العالم بمفردها، ويبقى النقاش قائما بين مقاربتين.

مقاربة معياريّة: تطرح فكرة تطوير وتحيين النصوص المؤسّسة لتحديد مفهوم جديد للأمن، انطلاقا من تحليل التهديدات والمخاطر المعاصرة، كما تستهدف تنظيم استعمال القوة العسكرية سواء على مستوى الآليات الدولية أو على مستوى الدول في حال الدفاع عن النفس.

مقاربة مؤسّساتية: تبحث في كيفية تطوير عمل المجلس على مستوى النجاعة والشرعية أو على مستوى الإمكانيات والتركيبة. وتعتبر مسألة الإمكانيات في هذا الطرح بسيطة باعتبارها لا تتطلّب تغيير الميثاق أو تنقيحه أو مراجعته. 

وحتى لا تكون الأمم المتحدة مجرّد أداة لخدمة دول معيّنة طالبت عديد الدول بضرورة القيام بإصلاح عاجل لمجلس الأمن الذي تعود تركيبته وطرق اشتغاله إلى الحرب العالمية الثانية.

لم يعد خافيا على أحد وأن المجلس يشتغل تحت تأثير "النادي النّووي"، الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، والمملكة المتّحدة، لذلك يطالب الكثير بمراجعة حق النقض "الفيتو" الذي اعتمده كل الأعضاء المذكورين  وبشكل متفاوت منذ تأسيس الأمم المتحدة.

وتبرز النية المُبيَّتة في هذا المجلس كلّما تمّ اللجوء لحق النقض لأجل المصلحة المُنفردة للدّول الخمس وحلفائها، وعلى سبيل الذكر لا الحصر استخدم الفيتو 43 مرّة من طرف الولايات المتحدة لصالح إسرائيل. وغنيٌّ عن البيان أن وجود حقّ النقض في جهاز رئيسي دولي كرّس ازدواجية المعايير، وعطّل صدور قرارات لقضايا عادلة، ومنع الجمعية العامة من القيام بمهامها، هذا فضلا عن عرقلة مساعي تعديل ميثاق الأمم المتحدة.

وتأكيدا على ضرورة تغيير هذا الواقع، طالبت الدول المكوّنة للفريق "ج4"، ألمانيا، اليابان، الهند والبرازيل، والتي لها وزنها الاقتصادي على المستوى العالمي بالإسراع في مراجعة تركيبة المجلس        و ضمّها للأعضاء الدائمين. وتعالت أصوات أخرى تطالب في نفس السّياق بضرورة الاصلاح وإعطاء الدول العربية والإفريقية حضورا  مناسبا في مجلس الأمن.

إن الأمن الدولي لم يكن ضربا من الخيال أو كلاما في الجدال لذلك يحتاج العالم إلى رؤية موحّدة حول "الآليات الدولية" التي تكرّس هذا النظام وتعكس الواقع العالمي، وتتمتّع بالقدرة على اتخاذ القرار.

لن تحكم الولايات المتحدة العالم بالقوة،  فالشرعية الدولية هي الحاكمة وباسم القانون الدولي يخضع كل المجتمع الدولي لها.

العقيد محسن بن عيسى

متقاعد من سلك الحرس الوطني

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.