عبد اللطيف الفراتي: خيبة الأمل المتكررة
عندما أهل علينا يوم 7 نوفمبر 1987، كنت علمت بالحدث قبل الكثيرين، فقد كنت أغط في نوم عميق عندما أيقظني التليفون بجرسه الحاد تحت رأسي، وكان على الخط المرحوم الحبيب شيخ روحه ليعلمني دون زيادة معطيات أن انقلابا حصل في تونس، كان رئيس التحرير الأول لجريدة الصباح عبد الجليل دمق مسافرا، أعتقد أنه كان في الاتحاد السوفياتي، في السيارة وأنا في الطريق إلى مقر الجريدة في نهج علي باش حانبة، استمعت إلى بيان الوزير الأول منذ قرابة شهر زين العابدين بن علي، وبقدر امتعاضي من الانقلابات وإيماني العميق أنها لا ولن تقدم إيجابيا، فقد بعث نص بيان شعرت بأنه كتب بماء الذهب لما جاء فيه من وعود لا يمكن للمرء إلا أن يبصم عليها بأصابعي العشرة كما كان يقول خميس الشماري ـ كان ذلك هو اعتقادي في تلك اللحظات التاريخية، وأنا أشق شوارع خالية في ذلك الصباح، لا أثر فيها لما يدل على انقلاب قد حصل، كل شيء هادئ، ولكن في شيء من التوجس، ماذا حصل لبورقيبة؟ ثم كيف سيكون المستقبل هل ستصح الوعود، بعد أن كان التصحيح الهيكلي الذي تولاه رجل المعجزة إسماعيل خليل قد أخذ طريقه، وأعاد الأمل إلى النفوس.
من اللحظات الأولى أدركت أن بيان 7 نوفمبر هو من تحرير الهادي البكوش، فالكلمات كلماته، والنفس نفسه، وإذ أدعي أني أعرف الرجل فإني شعرت بأنه كان وراء كل كلمة في البيان, وسيدعي بن علي أنه هو كاتب البيان، وإذ سيؤكد منظر العهد الصادق شعبان في أحد كتبه أن البيان من تحرير بن علي مستشهدا، بصورة للنص بخط بن علي فإن لا أحد صدق ذلك.
التقينا بعد نصف ساعة في مقر الجريدة، كان على رأسنا الحبيب شيخ روحة وثلة من كبار المسؤولين فيها، بسرعة انتهينا إلى أن علينا أن نقف إلى جانب التغيير، لم تكن الكلمة أطلقت ذلك الصباح بعد، ولكن سؤالا حائرا كان مرتسما على الشفاه، ما هو مصير بورقيبة؟.
شرعنا في إعداد طبعة خاصة، لم نكن نجر وراءنا يومها كبعض الزميلات، أي إطراء لبورقيبة ولا أي تسبيح بحمده، لا ذلك اليوم ولا الأيام السابقة، فقد كان بورقيبة على عظمة دوره في تحرير البلاد وقيادتها على مساك التطور، قد اختل توازنه، وبات في حالة لم يكن له معها أن يواصل وهو يرتكب كل يوم كارثة جديدة، أو يعد لخطب جديد، في ذلك اليوم كان مفترضا أن تبدأ محاكمة جديدة وغير قانونية لراشد الغنوشي بهدف سوقه إلى المشنقة ، والذين كانوا مع أو ضد الغنوشي كانوا يعتقدون أن تلك تعتبر غلطة سياسية فادحة.
خطآن في نظري تم ارتكابهما ذلك اليوم، فبعد ساعات من بيان 7 نوفمبر، تم على غير انتظار الطبقة المثقفة، اعتماد الحزب الاشتراكي الدستوري كقاعدة للحكم، وتعيين بن علي رئيسا له، كانت تلك طعنة أولى في صدر القوى التي كانت تأمل تغييرا حقيقيا، يستبعد الحزب الحاكم، ويعتمد القوى الحية التي كان لها تصور يعتمد تمشيا ديمقراطيا، لا يمكن أن يتحقق مع حزب تعود لا فقط على اعتماد قوة الدولة، بدل أن يكون صاحب تصورات مبلورة لا تستبعد القوى الحية، ولا تستفرد بالحكم كما الماضي.
عامان أو ثلاثة أعطى بن على خلالها بعض المؤشرات الايجابية على الصعيد السياسي، تخللتها مسارات استبدادية كان الأمل أن لا تتعمق، في نفس الوقت، كان المسار الاقتصادي بفضل إسماعيل خليل ومحمد الغنوشي والنوري الزرقاطي وبعدهم صلاح مبارك ومصطفى كمال النابلي والصادق رابح وغيرهم كثيرون، يرسمون طريقا اقتصاديا، كان يمكن أن يحقق أكثر مما تحقق، وللواقع لم يكن قليلا ما تحقق، ولكن التيبس السياسي والفساد في العائلة المحيطة بالرئيس، دفعت ما يتحقق من إيجابيات على طريق التباطؤ، وأذكر أنني خلال زيارة للبنك الدولي قبيل سنة ألفين بقليل استمعت إلى المسؤول عن مكتب شمال إفريقيا في جلسة خاصة وهو هنغاري يقول لي، إن الفاقد في نسبة النمو في تونس يبلغ 1.5 إلى 2 في المائة بسبب الفساد واستيلاء العائلة على المقدرات، كما أذكر أني وفي ندوة تم تنظيمها في الدوحة حول التجارة والديمقراطية، وبمجرد أن جلست في مكاني على طاولة في مأدبة عشاء نظمها أمير قطر، من بين طاولات كثيرة وقد وضعت أمامي كما البقية بطاقة تحمل اسمي وصفتي وبلدي ، حتى انبرى شخص عرفت لاحقا أنه قطري، يوجه لي الكلام; "أنت من تونس، بلاد اللصوص والحرامية"، وكان يقصد أن يسمعه أكثر عدد ممكن سواء على تلك الطاولة أو على الطاولات المجاورة، وإذ رفعت صوتي بالاحتجاج وقلت: "لا أسمح لك، ولا لغيرك"، حتى انبرى يحكي قصة استثمارات كبيرة أقدم عليها في تونس، ولكنه بحكم قضائي كما قال جرد منها.
صحيح أن تونس حققت نسب نمو بين 1990 و2010، بمعدل بين 4 و6 في المائة، ولكنها لم تنجز ما كان مخططا أي ما بين 7 و8 في المائة كمعدل سنوي، جزئيا بسبب الفساد، وحتى أزمة 2008 التي تضررت منها دول كبرى مرت بسلام.
كان ذلك يعني لو تحقق، توفير ما يمكن من دفع الاستثمار، وما يمكن من تحقيق التوازنات الكبرى الداخلية والخارجية، ما يمكن من امتصاص البطالة أو على الأقل الجزء الأكبر من البطالة.
ولكن عاملان اثنان أو ثلاثة قطعا مسيرة كان يمكن أن تكون ناجحة:
ولها غياب الديمقراطية وحرية التعبير، وغلق كل إمكانيات التنفس التي تقدر على تصحيح الأخطاء وفي الوقت المناسب.
ثانيها طول فترة رئيس واحد لم يستفد من تجربة سلفه، الذي رغم قوة شخصيته وما قدمه للبلاد قبل الاستقلال وبعده، والكاريزما التي كان يتمتع بها, لم ينجح لطول مدة حكمه واهتراء شعبيته
وتواصل شيخوخته وتراجع مداركه، والخطإ القاتل المتمثل في تعيين عسكري في موقع الخلافة، بن علي، لم يستفد من كل ما حصل فاستمر حكمه 23 سنة في زمن تسارع إيقاعه، وشمل الإدراك كافة طبقات شعبه.
وثالثا عدم كفاية ما اعتبره معجزته الإقتصادية، في تحقيق الكرامة للناس وتوفير فرص العمل للعدد الأكبر، باعتبار عدم كفاية نسب النمو، على أهميتها النسبية. وهو الذي كان يعتبر نفسه صديقا لأمريكا، لم يتنبه إلى أنها لفظته، وأنها استعملت أدوات خارجية للإيقاع به، كما لم يتنبه رغم أنه رجل مخابرات، إلى الإنذارات الداخلية المتمثلة في ما حصل في الحوض المنجمي وفي بن قدران، فيما لعبت قناة الجزيرة والأدوات الاتصالية الجديدة، دورا في زعزعة عرشه، الذي كان يظنه مكينا فضلا عن جبنه، وهروبه تاركا في حركة جبانة وراءه.
هل يمكن تأريخ الثورة بيوم 17 ديسمبر 2010، أو بيوم 14 جانفي 2011، سيظل الخلاف قائما، والثورات (إذا كان ما حصل في تونس ثورة) تؤرخ عادة بيوم انتصارها ولعل ما حصل في فرنسا وروسيا وهما أكبر ثورتين مرجعيتين في العالم على مر التاريخ دليل على ذلك، سيدي بوزيد والقصرين وتالة وصفاقس (بأكبر مظاهرة حصلت في البلاد يقال إنه أكبر من مظاهرة تونس يوم 14 جانفي) وتونس العاصمة في اليوم الذي غادر فيه بن علي البلاد، مغدورا أو هاربا، لا يهم التاريخ .
إذا كانت ثورة فهي ثورة غير اعتيادية ATYPIQUE لأنها وبعكس الثورات التي سبقتها في العالم، لم تعتمد فكرا ولا تنظيرا، ولأنها لم تتوفر على قيادة، ولأنها لم تمسك بزمام الأمور بعد "نجاحها" بل تركت "للحرس القديم" أمر مواصلة قيادة البلاد.
ومن المنظرين من يقول إنها ثورة ولكنها لم تكتمل.
بقطع النظر عن كل ذلك فإن "التغيير " ولنسمه كذلك تجاوزا، أثار حماسا كبيرا وفرحة لا يمكن أن توصف، واعتبر خلاصا للبلاد، من عهد ديكتاتوري، وانهيارـ صحيح الأمر أو خاطئ اقتصادي اجتماعي مجتمعي SOCIETAL،
وقد شاهدنا حتى قياديين في الحزب الحاكم ممن انضموا إما غصبا أو بصورة انتهازية إليه يرحبون بما حدث، فيما إن قيادة التجمع ولنسمه كذلك فقط، اختبأت في جحورها، ولم تتول الدفاع لا عن نفسها ولا حزبها ولا سلطتها، مما يعني أن البناء كله كان قصرا من ورق، وأن تماسكه كان تماسكا اصطناعيا، كما هو شأن الديكتاتوريات وأحزابها الانتهازية، ولعله كان من الطبيعي أن يدافع حزب الدستور الذي يفخر بتاريخ يمتد بين 75 و90 سنة حسب التوجهات عن نفسه، إلا أنه استسلم استسلاما غير مشرف، فانفرطت قياداته بهروب الزعيم، ولم تستطع أن تصمد لا أمام المتظاهرين، ولا أمام طبقة سياسية جديدة رغم أنها كانت تتحرك في غير انتظام، ولقد كان المراقبون ينتظرون أن تعيد القيادة تنظيم نفسها بعد هروب رئيسها وتعقد اجتماعات هياكلها، وتحدد أدوات تحركها، ولكنها استسلمت للتيار فجرفها إلى أن، وصل الأمر لمحاكمة صورية قضت بحل أقدم وأعرق حزب في تونس، بصور يقول بعض القانونيين أنه لم يكن لا قانونيا، ولم تحترم فيه الإجراءات الطبيعية للمحاكمات العادية.
وفي ما عدا بعض ردود الفعل القليلة، فقد تم حل التجمع الدستوري ومصادرة أملاكه، بدون أن يتحرك "مناضلوه" الذين كانت القيادة تفتخر بأن عددهم يتجاوز 2.5 مليون، تبخر وجودهم، وتبين أن نضالهم كان اسميا لا فعليا.
يوم 15 جانفي 2011، استلمت قيادة البلاد بنفس الوجوه القديمة الأمر، فالذين قاموا بالثورة إن كانت هناك ثورة، غابوا عن المشهد تماما، وتم تطعيم الحكومات المتعاقبة وقتها بوجوه من المعارضات القديمة، وعدد أكبر من الكفاءات تم استقدامها فورا من الخارج، واستمر الوضع كما كان، لولا اعتصامي القصبة الأول والثاني الذين كان وراءهما قيادات من جهتين متناقضتين استعملتا، قواعد اتحاد الشغل والمشاركين في مظاهرات 17 ديسمبر /14 جانفي هما حزب العمال الشيوعي الذي كان أتباعه وقود الثورة عن طريق فروع اتحاد الشغل لا مركزيته، وحزب حركة النهضة الذي عاد بقوة بعد عودة زعيمه راشد الغنوشي إلى البلاد دون أن يكون شارك لا من قريب أو بعيد في فعاليات وتفاعــلات "الثورة ".
وبعد أن كان التوجه سائرا نحو تكليف مجلس النواب القائم ومجلس المستشارين بتعديل الدستور في العمق، والدعوة لانتخابات رئاسية وتشريعية بعد 90 يوما، كان أحمد نجيب الشابي يمني النفس بالانتصار فيها، بما يمكنه من رئاسة الدولة وبأغلبية برلمانية باعتبار شرعيته النضالية في المعارضة، سارت الرياح في اتجاه معاكس، فقد تحالفت قوى عديدة في اتجاه حل المجالس التشريعية لنفسها والدعوة لصياغة دستور جديد من ورقة بيضاء، فاضطر محمد الغنوشي الوزير الأول للاستقالة باعتبار عدم موافقته على هذا التمشي الذي كان يراه مؤديا بالبلاد إلى المجهول، وتولى الباجي قائد السبسي لا فقط رئاسة الوزراء بل رئاسة الدولة فعليا وإن كان أبقي فؤاد المبزع رئيسا للجمهورية.
هل كان هذا التوجه الذي انطلق في بدايات شهر مارس 2011 هو الذي قاد البلاد إلى الوضع المنهار الذي تتحمل تبعاته حتى اليوم، ويبدو أنها ستواصل تحمل تبعاته لمستقبل غير منظور، هل كان الوضع سيكون أفضل لو سارت البلاد في التوجه الذي اختاره لها الوزير الأول محمد الغنوشي، أي انتخابات رئاسية وتشريعية في أجل قصير بعد تعديلات دستورية ليست في العمق، وهل كان يمكن تجنيب البلاد فترة انتقالية طويلة نسبيا، امتدت لحد اليوم، ولم تستطع البلاد أن تخرج منها، رغم الانتخابات الرئاسية التشريعية لخريف 2014، فغرقت إلى الأعناق في أزمة اقتصادية اجتماعية كبرى، مع اتضاح أن دستور 2014 قد شابته هنات كبيرة, بعكس ما كان يقال من أنه أحسن دستور في العالم.
هناك الأرقام التي لن نتحدث عنها طويلا فهي معلومة ومتداولة، وتبرز أن تونس في حالة ميؤوسة من التخبط والتدهور والانهيار.
ولكن سنتحدث عن الوضع بعين المواطن، فجميعنا تحمسنا للثورة عندما جاءت وجاء معها أمل عريض بمستقبل مشرق، بعضنا ممن تضرر من حكم سابق ظالم وفاسد نسبيا انتعش على فكرة حلول الديمقراطية والعدل والإنصاف وانفتاح الآفاق، كثيرون منا ممن اعتقدوا بإطلالة مستقبل باسم، يطمئنهم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
كل هذا تبخر كحلم قطعته يقظة بائسة، فالطبقة الوسطى تآكلت وجزء منها التحق بجحافل الطبقة الفقيرة التي آملت أن ينالها حظ الارتفاع في السلم الاجتماعي فكانت سقطتها مدوية، والطبقة الفقيرة أصلا باتت مسحوقة ولولا التضامن المجتمعي لباتت تفترش العراء ولا تجد لقمة العيش، بعد سبع سنوات أخطاء وراء أخطاء بدأت مع الترويكا والمرزوقي والجبالي والعريض وبن جعفر، التي جبنت عن اتخاذ القرارات الموجعة المنقذة رغم اتضاح الصورة، جاءت الحكومة الانتقالية بقيادة المهدي جمعة فاعتبرت نفسها حكومة تصريف أعمال ليس إلا، ثم جاءت حكومات قائد السبسي والصيد والشاهد، فلم تأخذ الثور من قرونه ولم تصارح الشعب بحقيقة أمر استفحل منذ 2011، فغابت الدولة وتبخرت هيبتها واستقالت عن أداء مهامها.
والحصيلة بعد 7 سنوات أو تكاد أن مكاسب ما قبل الثورة ولنقل بصراحة أنها لم تكن قليلةـ أقول هذا وأنا أحد ضحايا العهد السابق، أن الوضع في بلادنا ليس اليوم في أحسن حال، حتى مقارنة بالماضي إلا من ناحية الممارسة الديمقراطية وحرية التعبير على أهميتهما، ولكن عندما تتحدث مع الشارع يقولون لك، إننا لا نأكل ديمقراطية ولا نتملك بحرية التعبير، إلا من استفادوا ويستفيدون من الوضع، ويثرون على حسابنا.
لا يمكن للمرء أن يكفر بالثورة، إذا كانت هناك حقا ثورة ـ ولكنه لا يمكن أيضا أن لا يلاحظ بالعين المجردة، أن أوضاعنا تردت، وأن بلادنا تتدحرج كل يوم.
كان الأمل بعد الثورة أن تتحسن الأوضاع فإذا بها تنهار، مع انهيار العملة الوطنية، التي هي مقياس الوضع العام، ومع انهيار الطاقة الشرائية ومع انخرام التوازنات العامة جميعها، ومع الانفلات المجتمعي، وتعاظم حجم الجريمة والفساد ورديفه الإرهاب.
معاذ الله أن يتمنى المرء عودة الماضي، فلقد كان العهد مظلما، ولكن على الأقل ليتمنى الإنسان مع الممارسة الديمقراطية وحرية التعبير التي تجاوزت حدود المنطق، لقمة عيش سائغة، وباتت مطمحا غير متوفر في بلد يزداد فيه من هم تحت عتبة الفقر، ويتفقر من كانوا يعتبرون من الطبقة الوسطى، بينما ترتفع فئات جديدة من أثرياء المرحلة، ليسوا كلهم من رجال الأعمال، بل ممن يعرفهم الشعب ويعرفون أنفسهم.
طبقة طفيلية استطاعت أن تنفذ إلى الثروة وأن تتمعش من عرق الناس، وأحيانا من غبائهم.
عبد اللطيف الفراتي
- اكتب تعليق
- تعليق
لعلها بداية التقويمات الموضوعية