الصحبي الوهايبي: مـافــيــا
إلــى زمن غير بعيد كنتُ أحسب التّعذيب لعنةً ربّانيّة تولد مع الفرد معجونةً في جيناته، حتّى قرأت على صفحات الأنترنيت إنّ التّعذيب علم يُكتسب بالدّرس والدّربة. وكان الدّرس الأوّل بسيطا وسهلا، يكاد يكون ممتعا، يجسّم أحسن تجسيم ذلك القول المأثور «علّموا الصٍّبيةَ وهم يلعبون»... ككلّ لعبة، لا بدّ من لاعبين اثنين على الأقلّ. صحيح، هناك ألعاب لا تتطلّب إلاّ لاعبا واحدا، ولكنّها ألعاب مملّة، منافية لقواعد الطّبيعة التي تتأسّس على مفهوم المثنّى والجماعة، ذلك أنّ اللاّعب الفرد الذي يلاعب نفسه مثله مثل الدّودة الخنثى التي تتناسل من ذاتها... قواعد اللّعبة بسيطة يفهمها الصّغار كما الكبار، فمهمّة اللاّعب الأوّل، ونسمّيه المحقّق، أن يجعل اللاّعب الثّاني يتكلّم، مستعملا في ذلك ما لذّ له وطاب من الوسائل والآلات والأدوات.
أمّا اللاّعب الثّاني، ونسمّيه المتَّهم، فمهمّته ألاّ يتكلّم أبدا أو أن يصمت ويصمد أطول وقت ممكن، مستعملا في ذلك كلّ الوسائل المتاحة، حتّى أنّ بعضهم يقطع لسانه بين أسنانه حالما يبدأ النّزال، وقــد يخســر عضوا مــن جســمه أو عضـــوين أو أكثر، ولكنّها قواعد اللّعبة، ولا بدّ من احترام القواعد وإلاّ عمّت الفوضى وانخرم الأمن وذهبت هيبة الدّولة هباء منثورا. وليس للّعبة وقت مضبوط أو أشواط محسوبة معدودة، أو وقت إضافيّ أو مبدّل يطول ويقصر حسب رغبة الحَكَم، كما يقول أهل الكرة، فقد تستغرق أحيانا ساعة أو ساعتين، وقد تستغرق أيّاما وشهورا وربّما عمرا مديدا أو قصيرا، وقد تنتهي أحيانا بموت أحد اللاّعبين أو الاثنين معا إذا كانا عنيدين لا يلينان وصلبيْن لا يُكسران... هذه هي القواعد التّعليميّة العامّة، وقد تبدو رتيبة ومملّة أحيانا، لذلك يجب على اللاّعبيْن معا أن ينوّعا ويبتكرا، فالخداع والكذب سلاح متاح مباح. وقد يعترض بعض الأولياء ومنظّمات التّربية والأسرة على مثل هذه الدّروس لقسوتها، ولكنّها لعبة مفيدة، تعلّم الأطفال الصّبر وترسّخ في وجدانهم قيمة الحوار وتخفّف عنهم ما يلاقون أحيانا من ضغط وكبت، في زمن لا يحاورون فيه إلاّ شاشات حواسيبهم، وهم أحوج ما تكون الحاجة إلى الحوار الصّريح والمباشر. أليس طفلُ اليوم رجلَ الغد؟ ولا أدري لماذا تناهض جمعيات كثيرة ممارسة التّعذيب وتعارضه، في حين أنّها لعبة مفيدة، قاسية ولكنّها تعلّم الفتيان الصّبرَ والجلد ورباطة الجأش وشدّة المراس وقوّة الشّكيمة...لقائل أن يقول كأنّك تريد بدرسك هذا أن تعلّم الصّبية القاعدة الذّهبيّة التي بَنَتْ عليها المافيا سطوتها ونفوذها «لا أرى، لا أسمع ولا أتكلّم»، وأيّ ضرّ في ذلك وهم يعيشون عصرَ المافيا في أوج سلطانها؟ وهل ثمّة كلمة أكثر تداولا من كلمة مافيا؟ يفهمها الطّفل في كلّ أصقاع الدّنيا، في سيبيريا وفي الهند وفي تشاد وفي أمريكا وفي أستراليا وفي إيطاليا... هذه كلمة لا وطن لها، أو كلّ الأوطان وطن لها... خسارة واحدة تحزّ في القلب، فالمافيا الجديدة خرقت تلك القاعدة الذّهبيّة فصارت تتكلّم كثيرا وتتبجّح كثيرا وتنشط جهارا بهارا، ولم نعد نشاهد كما كنّا في السّينما الممثّل «روبـــير ستـــاك» متقمّصا دور «أليوت ناس» وهو يلاحق المافيا ويضيّق عليها الخناق. ولمن لا يعلم فأليوت ناس كان رجل شرطة من لحم ودم، قارع زعيم المافيا الشّهير «ألكبوني» في عرينه، ثمّ مـــات أليــوت نــاس ومات ألكبوني، واحدٌ خلّف نسلاً كثيرا وواحدٌ لم يخلّف...
الحكمة من كلّ ما حكيْت، إنّ الأنترنيت ضرّه أكثر من نفعه. أرأيتم أيّ أذًى يلحقه بالفتى؟ لو لم أبحر، وأنا لا أحسن العوم، ما قرأت هذا الدّرس البغيض. كثيرون لا يحسنون العوْم ولكنّهم يعومون، وبقدرة قادر يطفون فلا يغرقون، كأنّهم يمشون فوق الماء. هناك السّباحة على الظّهر لمن يلعب على المكشوف ولا يريد أن يُؤخذ غيلة، وهناك السّباحة على الصّدر لمن أَمِنَ ظهرَه، ولا أحد في هذا الوقت يأمن على ظهره، لذلك ترى هذا النّوع من السّباحة يكاد يندثر، وهناك السّباحة الحرّة لمن لا يفقه في السّباحة أصلا... غرق أحدهم، وقبل أن يبلعه اليمّ رأى رجلا على حافّة النّهر فصرخ مستنجدا «ساعدني! أنقذني!» فردّ عليه: «استغفرْ ربّك يا رجل! هذا يومك! هل تريد أن تهرب من قدر الله؟». وآخرُ ما قرأت أنّ شرطة مملكة من ممالك العربان ألقت القبض على أنفار ثلاثة متلبّسين يؤدّون صلاة الاستسقاء والمدينة مازالت غارقة تحت مياه الفيضانات التي اجتاحتها... وكان أحدهم يصارع الموج ويصرخ: «أنا لا أعرف العوم! أنا لا أعرف العوم!» فردّ عليه رجل كان يُفسّح كلبه على حافّة النّهر: «لماذا الصّراخ يا رجل؟ أنا أيضا لا أعرف العوم، فهل رأيتني أصرخ على السّطوح مثلك؟».!
الصحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق