في مسألة حاضر الدستوريين ومستقبلهم بعد 14 جانفي 2011 قراءة الواقع على وقع الحاضر

في مسألة حاضر الدستوريين  ومستقبلهم بعد 14 جانفي 2011 قراءة الواقع على وقع الحاضر

من حين لآخر، يتساءل بعض التونسيين في المنابر وفي الفضاءات الخاصة والعامة عن مآل الدستوريون وهل مازالوا دستوريين بعد حلّ حزبهم التجمع الدستوري الديمقراطي بذلكالعدد من المنخرطين والناخبين؟

الدستوريون بمعني الذين انتموا الي الحزب الدستوري منذ إحداثه في محطاته المختلفة وهم كيان متحرك، متنوع في تركيبته، تواجدوا في كل زمان ، تفاعلوا مع التونسيين وفق مبادئ وقيم، أصبحت، بفعل التراكمات السياسية والتفتح على كل الوطنيين ، مشاعة بين كل التونسيين دون أن تكون عقيدة إيديولوجية متكلسة.

الدستوريون اليوم ثلاثة أجيال مختلفة لكن تتكامل في نهاية الأمر رغم اعتزال أغلبهم العمل السياسي، يعيشون ماضيا على وقع مقتضيات الحاضر بغرابة قيمه عن ثقافتهم السياسية ، جيل ثالث ناشط وفاعل، يتموقع وينتدب البعض منه  في السلطة وفي الأحزاب لتحسين صورة النظام القائم المرتبك ، وجيل ثان يتابع المشهد بيقظة وتأمل، وجيل أول، متصالح مع نفسه، متوافق مع الجميع من الماضي ويجلس في الحاضر في مقعد الحكيم،،،

فالدستوريون موجودون اليوم بالخصوص في الأحزاب الجديدة أي وليدة ما بعد 14 جانفي 2011 والتي تبنّى البعض منها جانبا من ثوابت الفكرالبورقيبي بصفة خاصة وأخرى الفكر الإصلاحي الدستوري بصفة عامة.

تموقع الدستوريين في الحكم (في الأحزاب و في السلطة)

هناك للدستوريين ما يجمعهم وما يفرقهم مثل كل الكيانات السياسية النشيطة غير الإيديولوجية المتكلسة. 
- فيمكن اختزال في ما يجمعهم: النضال لتحرير الوطن من الاستعمار  وللمحافظة على استقلاله  وعزته ومناعته و وحدته وحرمة البلاد وسيادتها وعلى المنوال المجتمعي المتأصل في هويته العربية الإسلامية وتلازمه في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والمواقف من أمهات القضايا الوطنية والدولية والوصول إلى حكم والمحافظة عليه
- كما يمكن اختزال في ما يفرق الدستوريين: بعض الخيارات الاقتصادية والاجتماعية  بحكم تلازمها المبدئي (التعاضد مثلا) والتعاطي الديمقراطي في داخل الحزب وخارجه ( مؤتمر 1971 وانشقاق قيادات أسست معارضات جديدة) ومسألة الزعامة جهويا و وطنيا قبل الاستقلال وبعده (الصراع على زعامة الحزب والتراجع في انتخاب أعضاء لجان التنسيق والديوان السياسي) ، ثم بعض الولاءات التي تؤدي إلي الإقصاء ( شقوق في الحزب) والصراع علي الخلافة في عهدي الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس زين العابدين بن علي.

و إثر حل التجمع الدستوري الديمقراطي، فشلت محاولات جمع قوى الدستوريين لدخول غمار انتخابات 2011 بعدما تعددت الأحزاب المؤسسة من التجمعين الدستوريين بتسميات وبمراجع  مختلفة رغم تقديرات الفوز بـ 10 إلى 20 بالمائة من مقاعد المجلس التأسيسي لسبر أراء سري خلال جوان 2011 في حال تقديم قائمة موحدة للدستوريين ( نتج عنها فشل ذريع في أول انتخابات لم يكن لها القدرة على تعيئة القوة الشعبية للتجمع، لكن لم يظفر إلا الحزب الدستوري الجديد بمقعد واحد وحزب المبادرة (قبل أن يحمل اليافطة الدستورية) بخمسة مقاعد بالمجلس التأسيسي وتشكل الدستوريون في عدة أحزاب وشاركوا في القائمات الانتخابية التشريعية لسنة 2014 وخاصة بحزب نداء تونس بقيادة الباجي قايد السبسي الدستوري المخضرم وفاز في هذه الانتخابات حوالي ثلاثون نائبا، نصف  منهم كان يتجمل مسؤولية وسطى في التجمع الدستوري الديمقراطي.

يمكن القول اليوم إنّ العديد من الأحزاب التي تبنّت بعض الثوابت الدستورية تحتضن اليوم دستوريي الانتماء السابق بنسبة هامة من منخرطيها تصل إلى حدود 70٪‏ وتواجدوا في الهياكل وفي مختلف مستويات القيادة خاصة بعد انتخابات 2014  بنسب متفاوتة.

كما أنّ بعض الأحزاب التي لم تتبن المنهج البورقيبي أو الفكر الدستوري طعَّمت قياداتها وهياكلها ومنخرطيها بجرعة من الدستوريين بحثا عن التجربة والكفاءات السياسية وعنوانا للتفتح على الدستوريين طمعا في تكثيف إقبال المنخرطين وكان طيف ثان من الدستوريين قد تموقع اليوم في الحكم ينحصر بالخصوص في الجيل الثالث ، وفي السلطة التشريعية، وهو الطيف من الدستوريين الناشط قاعديا و محليا وجهويا الذي واصل نشاطه إلي حين حلّ التجمع والذي استلهم تثبيت مساراته الحالية من تجاربه النضالية في الجامعة ومنظمات الشباب والمنظمات المدنية والمهنية و النسائية والنقابية قبل 14 جانفي 2011.

و بالتالي ، فإنّ جانبا من الدستوريين قد انخرط في المسار السياسي ما بعد 14 جانفي وفق توجهاتهم السياسية والمدنية والمهنية ،،، أمنوا إلي حد اليوم تواجدا للدستوريين في المشهد السياسي والمجتمع المدني، يراه البعض موفقا ، ويراه البعض الآخر محتشما يستوجب الإسراع بلم شملهم ، في فضاء واحد وواعد للمساهمة ويجيز الطموح ، إلى جانب القوي الوطنية المتشبثة بسيادة الوطن في إنقاذ هيبة الدولة واستعادة قوتها الشرعية ومقاومة الإرهاب ولمواجهة الفساد الذي استفحل بعد 14 جانفي ومواجهة الانهيار الاقتصادي والانفلات الاجتماعي والإعلامي

ماذا عن تفاعل هذه الأجيال الثلاثة في ظلّ الحاضر؟

1. مسالة الثوابت الدستورية والفكر البورقيبي تبقى راسخة و لو في جزء منها في روح الدستوريين المتشبعين بعقيدتهم مهما كانت انتماءاتهم الحالية  وهي محصلة ما بقي اليوم من النضال في الحركة الوطنية الدستورية تحافظ على الحد الأدنى من التواصل بين الدستوريين وتعتبر في حد ذاتها مكسبا في في ظل ما تعرض إليه الدستوريون وحزبهم التجمع من شيطنة وهرسلة و محاكمات

وإقصاء وتهميش. لكن تبقي قيم الجمهورية وثوابت  المبادئ الدستورية وأمهات القضايا الوطنية الخيط الرابط بينهم والذي يجب تمتينه وفق خطة استشرافية تراعي مختلف التراكمات والضغوطات والإكراهات للمشهد الوطني المتحرك والضاغط
2. انتشار الدستوريين على الأحزاب مع التحلي بالحد الأدنى من التشبث بالقيم والمبادئ الدستورية مهم في التعاطي به في الأحزاب الحاضنة إذ يفتح مجال تمرير الثقافة الدستورية في العمل السياسي ويضيء من جديد تلك الصورة التى وقعت شيطنتها ويقرب المسافات بين الأحزاب الوافدة والنظام السابق لتحقيق مصالحة وطنية سلسة.
3. الاكتساح التدريجي للعمل الحزبي والمشاركة في تحمل أعباء الحكم وفي تمثيل الشعب في المجلس التشريعي اليوم و في المجالس المحلية غدا  وذلك بالجيل الثالث الذي يجيز قبول ضوابط المنظومة الجديدة بعد 14 جانفي وفق معايير جديدة يصعب التأقلم معها دون التخلص من كل ما هو سلبي مثل تلك التي دأبت عليها المنظومة السابقة منذ الاستقلال، من دولة الحزب إلي حزب الدولة ومن النفوذ المطلق لرأس النظام إلى التعاطي مع فصل الدولة عن الحزب ومع الضوابط الجديدة للمنظومة الديمقراطية في أبعد معانيها الإيجابية و لسلبية والإكراهات التي يفرضها نظام الحكم الجديد شبه البرلماني.

4. مبادرات لمّ شمل الدستوريين بمثل هذه المعطيات أصبح يحمل سلبيات بقدر ما يحمل من إيجابيات لكن تحقيقه أصبح صعب المنال لأنّ من يبحثون عن ذلك هم الذين لم ينخرطوا بعد في المنظومة الجديدة وفي الأحزاب  وكذاك من فشلوا في الانخراط فيها، وبالتالي ، فإنٰ فشل كل مبادرة من هذا القبيل أصبح أقرب من نجاحها.

إنّ موعد الانتخابات البلدية و التشريعية في أفق سنة 2019، الذي يفرض تجديد العمل السياسي وتحديثه للتجاوب مع التحولات المجتمعية الوطنية والإقليمية والدولية مثلما دأب عليه الحزب الدستوري في مؤتمرات 1934 و1955 و1964 و1971 و1988، هو الأفق الوحيد والموعد الوحيد الحاسم والأقل مخاطر الذي يبقي لتأمين و إنجاح تواصل المسار الدستوري من عدمه وهو  يفرض توخي تصور لمنهاج تواصلي بين الدستوريين في مستوى الكفاءات و القيادات والأجيال و خاصة  الجهات التي أصبحت الفاعل الحقيقي لكل الانتخابات وكل ذلك دون المخاطرة بمبادرات جديدة التي يمكن أن تبعثر الأوراق وتصبح غير مضمونة الجدوى ، أي المحافظة على انتشار الدستوريين بين الأحزاب خاصة في تلك الأحزاب المتقدمة في مختلف صبر الآراء، قصد التأثير على المشهد السياسي المتردي وبهدف التواجد الدستوري في منظومة الحكم في ذلك الأفق المرتقب  من خلال التموقع أساسا في السلطتين الجهوية والتشريعية الذي يؤهل لبناء دستوري جديد رؤية و هيكلا. 

تثبيت التكامل بين الأجيال من أجل تونس

أصبحت اليوم الحركة الوطنية مكسبا مشاعا لكل التونسيين والمحافظة على السيادة الوطنية واجب اليوم على الجميع ومناعة النظام الجمهوري فرض على كل الوطنيين ، وتلك هي مفاخر إنجازات كل الدستوريين التي تميزهم عن غيرهم.

ففي هذه المرحلة الجديدة الدقيقة والصعبة من تاريخ تونس التي ربما أعادتنا في جوانب منها إلى عشريات خلت، لا يمكن ان يتخلى الدستوريون عن أداء الواجب إزاء الوطن بتضحياتهم المعهودة وبالتزامهم الثابت بحماية النظام الجمهوري وذلك بتناغم أجيالهم الثلاثة وبتشارك مع القوى الوطنية المتمسكة بقيم و مبادئ الجمهورية التي أسسوها.

خلاصة القول إن الثوابت الدستورية التي تجمع الدستوريون اليوم أينما كانوا (الوطنية الصلبة والذود عن مناعة الوطن وسيادته التي أصبحت هشة والمحافظة علىاستقلال البلاد الذي أصبح مهددا) يمكن أن توحّدهم  للخوض  في قضايا الأمة وإنقاذ الوطن من الوضع الذي أصبح عليه لكن لا يجمعهم سوى الحكم وممارسته في كيان واحد يلمّ شملهم من أجل تلك القضايا.

وتبقى إمكانية الظفر بالحكم لوحدهم في درجة الاستحالة  ولا يمكن أن يكونوا إلا شركاء فيه بمنظور الوحدة الوطنية ومتى استعاد أنصارهم من الناخبين من جديد مواقع حزبية في المشهد السياسي الحالي.

الأزهر الضيفي
عضو مجلس النواب وعضو اللجنة المركزية للتجمع الدستوري الديمقراطي سابقا
كاتب عام ودادية قدماء البرلمانيين التونسيين ورئيس منتدى الفكر الدستوري

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.