ورقات من كتاب »سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرا«
بمكتب المدير (مدير السجن) كان ينتظرني ثلاثة: المدير ومسؤول من« الداخلية» اسمه بوعبد الله وحسن عبيد. ردّة فعلي الأولى كانت أن أعلنت رفضي للتّعامل مع الأخير، وما كان منه إلاّ أن طفق يهدّد إلى أن نبّهه المسؤول.
قالوا لي إنّ الرّئيس قرّر إطلاق سراحي يوم الغد وإنّه عليّ أن أتهيّأ لأخرج إلى النزل أقضّي فيه الليلة وتعدّ لي فيه كسوة ويقصّ شعري كي أكون على أحسن شكل لمّا أذهب للقائه.
أعلنت رفضي وقلت لهم: «ابحثوا عن سجين سياسيّ آخر، أنا أرغب في استكمال محكوميّتي.»
قالو لي إنّه لا خيار لي. وأضافوا إنّه ليس في وسع أحد أن يستبدلني بغيري فالرّئيس قد علّم بالقلم على الأسماء الخمسة الأولى على قائمة اقترحت عليه وطلب مجيئهم إليه.
قلت إنّ الأمر لا يعنيني. ولمّا قالوا إنّ مقابلة «المجاهد الأكبر» شرف يحلم به كلّ تونسي أظهرت غضبي وتمسّكت برفضي. أضاف أحدهم إنّ الرئيس أبونا جميعا لا يمكن أن نردّ له طلبا أو أمرا وعلينا أن لا نحاسبه حتى وإن اعتقدنا إنه كان قاسيا معنا، فهو يعاملنا كأولاده ويحبّنا وحتّى متى غضب فإنّه يسامح.ثارت ثائرتي وقلـــت إنّى أعـــرف من أبي ولا أرضى إلاّ به وإنّ أباهـــم ليـــس أبي ولا أقبـــل بلقـائـه ولم أرتكب ما يلزم أن يسامحني عليه بل عليه هـو أن يطلب الصـفح منّي.
احتدّ الكلام بيننا فأخرجوني إلى مكتب مجاور وجدت به رفيقا من مجموعة أخرى (أغلب ظنّي أنّها «الشّعلة») ولمّا سمعوني أخبره أمروا بإعادتي إلى غرفتي واستقدام آخر في انتظار أن أهدأ.
كنت فهمت من حديثهم عن بقية خمسة القائمة إنّهم فتحي بن الحاج يحيى ونور الدين بعبورة ومحمد الخميسي.
تباطأ فتحي حتّى قصصت الأمر عليه وعلى الرفاق. ولمّا وصل مكتب المدير تشاجر مع حسن عبيد وسبّه لأّنّه ضربه عند إيقافه. وكان موقف الآخرين كموقفنا. وانطلقت مفاوضات بين ممثّلين عن السلطة وبيننا. وأقررنا أربعتنا أن ندع لغيرنا من رفاقنا أن يضبطوا الموقف النهائيّ وأن يفاوضوا بدلا عنّا.
وصباح الغد انتهينا إلى القبول بأن نؤخذ للّقاء شريطة أن لا تدّعي السلطة إنّنا طلبنا العفو، وأن لا يسبّنا الرئيس أو يهيننا وإلاّ فنحن سنكيل له الصّاع صاعين، وأن تعطى لنا الفرصة لطلب إطلاق سراح بقية رفاقنا ولنندّد بالتعذيب وظروف السّجن ولنؤكد على لزوم إشاعة الديمقراطية. كانت هذه أوّل مرّة يفاوضنا النّظام فيه.
واستمرّ التفاوض بمكتب إدريس ڤيڤة وزير الداخلية. لعب فتحي دور المفاوض الأساسي وكانت له صولات مع عبد الحميد السّخيري فيها الطرافة والبديهة وفيها مدّ وجزر بين الفذلكة والشدّة.
وسعى إدريس ڤيڤة لأن يضعنا معه في نفس الخندق، خندق الديمقراطية.ومضى حتّى القول بأنّ فشل اللّقاء قد يتسبّب في انقلاب الوضعية وصعود المتشدّدين إلى السلطة.
في طريقنا إلى القصر الرئاسيّ كنت أملأ عينيّ بوجوه رفاقي وأنا أحســب أنّ الأرجح هو أن يهيننا الرئيس فنردّ الفعل فيسوء المآل. كنّا طرحنا هذه الفرضيّة وفكّرنا في أن نردّ بما يظهر كالصّياح وتمزيق ثيابنا، لكنّنا أيضا نظّمنا تدخّلاتنا وحتّى دخولنا مكتب الرّئيس وفقا لطباعنا وأمزجتنا وقدرة كلّ منّا على التّحكم في انفعالاتنا.
كنت أعرف سحر نظرات بورڤيبة. قرأت عنه وهزّني وأنا تلميذ بالثّانويّ، رأيته عن قرب وهو يشقّ وسط قريتنا في سيّارته المكشوفة يحيّي النّاس، وكنت معجبا بقدرته على تطويع بدنه وحركاته إسنادا لخطابه. ولكنّي عندما دخلنا مكتبه وجدته «عجوزا» تفشل المساحيق رغم كثافتها في التخفيف من تجاعيد وجهه وحدّتها، ثم رأيت حركات يده وقفز يبغي مغالبة قصره ومكابدته ليظلّ واقفا طوال اللّقاء فكاد يغلبني الضّحك.
بدأ بالتّنويه بجمالنا وبشبابنا ثمّ استغرب أن نسجن، وسأل عن المدّة التي قضّيناها محبوسين. وإذ أجبناه أخذ يحسب مجموع ما قضّاه مسجونا ومنفيّا ليستخلص أنّه سجن أكثر ممّا سجنّا! لام نور الدّين على شنباته الغليظة ونصحه بأن يحلقها حتّى يكون أجمل وأكثر وسامة. قصّ علينا بعضا من أيّامه بحصن مرسيليا وبغيره، وادّعى أنّنا ستالينيّون ضدّ الديمقراطية وقفنا ضدّ «ربيع براغ». ولمّا أكّدنا له عكس ذلك شدّد على أنّه كان أسبق إلى الموقف الصّحيح... وعندما مطلب التعدّدية الحزبيّة قال لوزرائه رخّصوا لهم في أحزاب لكنّه سرعان ما اعترض بدعوى صغر البلد وهشاشتها وأعاد على أسماعنا حكاية الفسيفياء الاجتماعية التي وحّدها ومقولة الغبار الّذي جعل منه شعبا والرّعاة الّذين قادهم إلى المدارس... وأمام ردودنا وخصوصا بفعل تدخّلات مساعديه (إدريس ڤيڤة والمنجي الكعلي ومدير التشريفات وعبد الحميد السّخيري) عاد أكثر من مرّة ليشيد بنا وبذكائنا وتميّزنا وليأسف على ما تعرّضنا إليه خارج درايته وليشير إلى مدير حزبه بأن يعوّل علينا! ولمّا أثرنا موضوع التعذيب راوح بين استهجانه والإذن بتحقيق في خصوصه وبين تبريره كوسيلة تجبرنا على الاعتراف بأسرار التّنظيم الّتي نتستّر عليها. ولمّا طلبنا إطلاق سراح جميع رفاقنا راوغ بداية فأظهر أنّه لا يعلم بوجودهم ثم قال إنّه سيطلق سراحهم عند احتفاله بعيد ميلاده. ولمّا ألححنا وألحّ معنا مساعدوه أخذ يضيف لقائمة الذين سيطلق سراحهم اسما بعد اسم (أذكر منهم الشريف الفرجاني وأحمد عماره وحميّد بن عيّاده والطّاهر شقروش ). ثمّ حزن فجأة وقال: «خَلِّيوْلِي البقيّة لعيد ميلادي»! لكنه بالمقابل أذن بأن يحصل المتبقّون بالسّجن على ثلاّجة وأن تصلهم الكتب والصّحــف الّتي يرغبـــون فيها وبأن يعــاملوا كما أنّهم في حالة سراح.
ونحن نخرج من مكتب بورڤيبة وضع المنجي الكعلي ذراعه على كتفي وهنّأني ودعاني إلى مكتبه لنتحاور فنزعت ذراعه عن كتفي وأجبته إنّ الرّئيس أذن بالتعدّدية وإنّي لا أقبل بمحاورته إلاّ في فضاءات عموميّة.
أمّا إدريس ڤيڤة فلقد قال إنّ اليوم كان يوم سعد وأنّه كان يتوجّس شرّا وإنّ الحظّ حالفنا جميعا فكان الرئيس إجابيا. وأسرّ: في العادة هو لا يحبّ مثل هذه المواقف وقد يبلغ به الحنق حدّ شتمنا وحتّى صفعنا...
وسمعته يقرأ مع المكلّف بالصّحافة مشروع بلاغ ويصحّح له النصّ بما لا يجعل المتقبّل يفهم أنّنا طلبنا العفو واستغفرنا.
فلا عفو ولا استغفار.
- اكتب تعليق
- تعليق