تجـربة الصـادق بـن مــهـنّي السجنــيّـة في كتـاب
تعدّدت في السنوات الأخيرة الكتب المصنّفة ضمن ما اصطلح على تسميته بأدب السجون ، وصدر آخرها منذ أسابيع قليلة عن دار «سراس للنشر»، حاملا عنوانا طريفا : «سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرا». الكتاب هو باكورة أعمال الصادق بن مهنّي، المناضل اليساري الذي عانى ويلات التعذيب والاعتقال والاضطهاد في عهد بورقيبة. قضّى ستّ سنوات بين أقبية وزارة الداخلية وزنزانات سجون 9 أفريل بالعاصمة وبنزرت والقصرين وبرج الرومي من أجل أفكاره السياسية إلى أن أُطلق سراحه مع عدد من رفاقه يوم 31 ماي 1980 بقرار من «المجاهد الأكبر» على الرغم من أنّهم رفضوا أكثر من مرّة التماس العفو منه.
ليس من الهيّن الحفر في الذاكرة لاستخراج ما علق بها من صور الماضي وترسّباته وأحاسيسه لنقلها بقدر كبير من الدقّة والصدق إلى القارئ. يخوض الصادق بن مهنّي، المتحصّل على الأستاذية في اللغة العربية، هذه المغامرة «الأركيولوجية» لأوّل مرّة كاتبا بعد أن تمرّس بالترجمة التي بلغ فيها من درجات الإتقان ما أهّله لنيل جائزة الصادق مازيغ للترجمة سنة 2017. اختار بن مهنّي لنصّه الذي يروي فيه تجربته السجنيّة نمط كتابة يختلف عمّا عهدناه في أعمال من سبقوه إلى التأليف في هذا الجنس، فاتّخذ له شكلا متفرّدا يجمع بين السيرة الذاتية والمذكّرات الشخصيّة والتأمّلات والاعترافات، من سماته المراوحة بين النفس الشاعري والبنية السرديّة. ولا يقف النصّ في عدّة مواضع منه عند الحديث عن الذات بل يتعدّاه إلى ضرب من سيرة الرفاق في السجن، من خلالها يتكشّف صمودهم في وجه تعسّف السلطة وبطشها وتصديّهم الجماعي لعجرفتها وحرصهم على التآزر واقتسام كلّ شيء وتفضيل العودة إلى ممارسة طقوس النقد الذاتي والمراجعات الجماعية على الاختلافات والنزاعات.
قصّة الكتاب طريفة بحقّ، فقبل أن تكون صفحةً من حياة سجين رأي سابق فهي قصّة تحرّر كاتب من عقال التردّد بين مداخل شتّى فما إن وقع الحدث القادح (لقاء شخص عُذّب عند إيقافه من أجل سرقة لم يقترفها) حتّى اقتنص اللحظة المواتية للانطلاق في ما يشبه عملية توليد لكتاب كان جاهزا في نفسه، مستبدّا بوجدانه، فتدفّق منه شهادةً عن نضالات جيل من أجل الكرامة والحريّة وحقوق الإنسان. يمتدّ الكتاب وفق خطّ زمني مسترسل من لحظة إلقاء القبض على المؤلّف من أجل الانتماء إلى تنظيم سرّي إلى يوم خروجه من السجن، مع إحالات أحيانا إلى فترات من الماضي والحاضر وقد خلا النصّ السردي من ذكر أيّ تاريخ وكأنّه يشكّل وحدة زمنيّة متراصّة، تذوب فيها تواريخ الأحداث المستعرضة. ولعلّ الكاتب لم يرم التأريخ لوقائع مرتبطة بمحنة طائفة من مناضلي اليسار في الحقبة البورقيبية بقدر ما حرص على أن يكون عمله كاسرا لإطار الزمن، حاملا لتجربة إنسانية ورؤية للوجود وخاصّة لعالم السجن الذي وصل من خلاله بن مهنّي، رغم كلّ عذاباته ومحنه، إلى معرفة ذاته أوّلا ثمّ إلى معـــرفة وطنه فوجد فيه الطريق إلى الحريّة والانعتــاق.
لم يسقط المؤلّف في تصفية الحسابات على حساب الموضوعية التاريخية ولا في التشكّي استدرارا للعطف وتعظيما للتضحية بل آثر التسامي عن الأحقاد والترفّع عن الصغائر فاعتمد في مستوى تقنية السرد مقاربة لافتة تقيم مسافة بينه وبين الواقع وتتيح له التجرّد من وضعيته الشخصية لينظر إلى هذا الواقع نظرة أرحب أفقا. لذلك لجأ في جزء هامّ من النصّ إلى استعمال ضمير المخاطَب، خاصّة ليصف حالة «الارتقاء» التي أدركها وهو يُعذَّب وكأنّ الجسم أضحى مبنّجا لا يدبّ فيه أيّ إحساس بالألم:
«هل كان جسمك يعاند هو جسمك؟ وهل كنت حينها أنت أنت؟ وهل كنت فعلا بينهم رهن رغبتهم، تلهب جلدك سياطهم وتدقّ أعضاءك عِصِيِّهم وخراطيمهم وقبضاتهم أم كنت قد ارتقيت» (ص 24).
صيغ الكتاب الذي يقع في 130 صفحة في لغة أنيقة فيها من جزالة اللفظ ومتانة الأسلــوب ما يجعل قراءته مصدر متعة وإفادة ومؤانسة.
إنّه شهادة ميلاد كاتب مبدع مُجيد.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق