أحفـاد الشّـابي: مبدعون تونسيون يجتازون الآفاق
لم يتغيّر الوضع كثيرا منذ ثلاثينات القرن الماضي، فكثير من الكتاب التونسيين ما يزالون يتطلّعون إلى الشّرق ويهاجرون إليه نصّا أو جسدا إذا ما استطاعوا إليه سبيلا، كذلك فعل أبو القاسم الشّابي عندما نشر نصوصه في مجلة «أبولو»، وكذلك يفعل أحفاده اليوم في مختلف العواصم العربية ذات الجاذبية الثقافية. هي هجرة لتحرير النص الأدبي من سجن المحلّية الضيّقة عبر تنويع فضاءات النشر والترجمة والحضور الدؤوب في شتى فعاليّات التبادل الثقافي بمجهود فردي وبعيدا عن الأطر الرسمية. في هذا السياق، حملت الدورة الثالثة من مهرجان الرواية العربية الذي تنظّمه مُؤسّسة الحيّ الثقافي كتارا بالدّوحة مفاجأة تمثّلت في فوز تونسي مزدوج، فقد تحصّل على الجائزة في فرع «رواية الفتيان» الشاعر نصر سامي برواية عنوانها «الطائر البشري» والقاصّة منيرة الدرعاوي برواية عنوانها: «ليس شرطا أن تكون بطلا خارقا لتنجح»، وقد استقطب هذا التتويج الاهتمام محلّيا لاسيما وأن فئة «رواية الفتيان» التي توّجت اسم تونس مرتين في دورة واحدة تكاد تكون جنسا أدبيا مفقودا عندنا. للإحاطة بفكرة الهجرة إلى الشرق التي يجسّدها عدد كبير من الكُتّاب التونسيين اليوم وفهمها سنتوقّف عند تجربة أربعة كتّاب من مرحلة التّسعينات وما بعدها: نصر سامي ومنيرة الدرعاوي وفاطمة بن محمود وإيناس العبّاسي، وهم يمثّلون تجارب أدبية مميّزة فرضت نفسها في الخارج كما في الداخل ولفتت إليها الانتباه بقوّة.
رواية الفتيان امتياز تونسي خارج تونس!
جائزة كتارا هي الثالثة في رصيد منيرة الدرعاوي، لكنها قد تكون الأهمّ، فبفضلها وقفت على منصة التتويج في الحي الثقافي بالدوحة إلى جانب عدد كبير من الكتّاب العرب يتقدّمهم الفائز بالجائزة الكبرى المغربي محمد برّادة، وبفضلها أيضا انتبه إليها الإعلام الوطني أكثر(!)، فازت مجموعتها القصصية الأولى «عازف الظلّ» في العام 2014 بجائزة تشجيعية، وتُوّجت روايتها الأولى «هواجس الليلة الأخيرة» بجائزة زبيدة بشير للإبداع في العام 2015، لكنّ أعمالها ماتزال تصدر في طبعات محلّية لا تناسب طموحها وهو ما يفسّر أكثر التماعة الفرح في عينيها وهي تتحدّث عن العقد الذي وقّعته في الدوحة لنشر روايتها الفائزة بالجائزة. تختزل منيرة الدرعاوي رؤيتها للكتابة بقولها «الكتابة عندي سماء أخرى تنفتح على فضاءات أتصالح فيها مع ذاتي ومع الآخر»، وهي لا تصف هنا الأمر مجازا بل حقيقة وواقعا إذ أنها تعيش بعيدا عن أضواء العاصمة ولا تنتمي إلى «السّاحة الثقافية» بصورتها النمطيّة، ويساعدها عملها مُدرّسةً على التجريب السردي، تقول عن رواية اليافعين: «إنّها مغامرة سرديّة مثيرة، المتقبّل فيها لاقط ممتاز لكلّ ما يقدّم له من رسائل يستبطنها النصّ، لذلك يقتضي هذا الجنس من الكتابة تكثيفا غير مملّ للأبعاد القيميّة التّربويّة وذكاء سرديّا يوجّه إدراكه نحو النّموذج الإيجابيّ دون إسقاطات أفقيّة قد تكون مزعجة لليافع الميّال بطبعه إلى الجموح والعناد»، رواية اليافعين أو الفتيان كما تسمى في الشرق تقتضي حسب منيرة الدرعاوي «لغة سلسة يسيرة الاستيعاب وتواترا لأحداث ممتعة مشوّقة تستأثر بذهن قارئها المحوط بشتّى أصناف الوسائط الرّقميّة التي قد يكون شدّها لمداركه أقوى من شدّ القراءة».
لكن «رواية اليافعين» لدى نصر سامي الشاعر التونسي المقيم منذ سنوات في سلطنة عمان ليست جنسا أدبيا مستقرّا وتفتقر إلى سوق واضح رغم أنها لا تختلف عن روايات «الكبار» في شيء، ولا يخفي أنّ الناشر الإماراتي هو الذي صنّف روايته الأولى «حكايات جابر الراعي» روايةَ فتيانٍ ما أتاح لها الفوز بجائزة الشارقة للرواية للعام 2015 عن هذا الصنف، وهو ما شجّعه على المواصلة والفوز بجائزة كتارا. وهذا النوع من الأدب ليس بينه وبين أدب الكبار فروق جوهرية، يحتاجه القراء، لأنه يستجيب لحاجات فنية وتعليمية لو وقع استثماره».
هذا التتويج الخليجي الثاني في رصيد نصر سامي بعد أربع سنوات من الإقامة في صلالة حيث يشرف على أنشطة أدبية وورشات إبداعية متنوّعة، وقد صدرت له خلال هذه السنوات أربعة أعمال آخرها ديوانه «سفر البوعزيزي»، وهو يعتبر أن لهذا الحراك دورا مهمّا في تعميق عمله الأدبي وربطه بمدى قرائي كان يفتقد إليه في تونس، إذ يقول: « لقد كتبت عديد الكتب في تونس، لا أحد يعرفها في العالم العربي، لكن السّفر والاحتكاك والإلحاح على تنويع الناشرين أعطى لنصوصي تلك المساحة الضرورية لتنمو وتكبر وتُعرف. وسأظلّ أفعل ذلك إلى أن توجد في تونس سياسة واضحة تعي بخطر الانغلاق وسدّ الطريق على كل ما هو ثقافي، وتعمل على ضمان حضور الكتاب التونسي في العالم العربي». ومثلما كانت تجربة الهجرة مهمّة في التعريف بالكاتب عربيا فإنها تلعب دورا كبيرا في تغذية التجربة ذاتها، يقول عن ذلك: «وضع الطائر القلق مفيد للقصيدة، وضع المسافر مهمّ للقصيدة، وضع الغريب مفيد لها أيضا... لقد صرت أعاني من «أرق مهجري» كان لسنوات رافدا مهمّا لنصّي، وهو الآن مقوّم مهمّ من مقومات كتابتي. حين نبتعد عن الوطن يصبح كل شيء مفقودا وشعريا وتتساقط عليه هالة بهاء غريبة». لكن أهمّ عنصر في تجربة نصر سامي الراهنة هي «الشاعر» الدورية الثقافية المحكّمة التي أصدر أعدادها الأولى في تونس قبل أن تنتقل إلى سوريا ثم مصر لتصبح واحدة من أهم المجلاّت على النطاق العربي في زمن أخذت تنقرض فيه المجلاّت الأدبية لانحسار سوقها أمام إمكانات النشر الالكتروني الرخيصة والهائلة.
مواسم الهجرة إلى الشرق
منذ فوز مجموعتها الشعرية الأولى «أسرار الريح» بجائزة الكتاب الشعري سنة 2004 وهي بعدُ ما تزال طالبة بكلية العلوم بالمنستير، بدأت إيناس العبّاسي تشقّ طريقها بوضوح وتحلّق بعيدا عن السّماء الأولى، فتحصّلت على جائزة الكريديف سنة 2007 عن مجموعتها القصصية الصّادرة في مصر «أرشيف الأعمى» ثمّ فتحت لها رحلتها إلى كوريا الجنوبية ضمن برنامج كوري للتبادل الثقافي أبواب العالم على مصراعيها، إذ أثمرت سنة 2009 كتاب «حكايات شهرزاد الكورية»، وخلال مدة إقامتها في إمارة الشّارقة بالإمارات تنوّعت إسهاماتها في الحياة الثقافية في الخليج والشرق وتركّزت على التّرجمة والكتابة للأطفال مع مواصلة كتابة القصّة القصيرة حيث صدرت لها عن دار الفارابي مجموعتها القصصية «هشاشة»، ثم أصدرت روايتها الأولى «إشكل»، وهي تتأهب حاليّا لاستقبال النسخ الأولى من روايتها «منزل بورقيبة» التي تصدر عن دار «الساقي» في معرض بيروت الدولي للكتاب هذا العام، وهذه الرواية الجديدة هي ثمرة Ùاورشة نظّمها «الصندوق العربي للثقافة والفنون آفاق» تحت إشراف الروائي اللبناني جبور الدويهي، وقد كانت الكاتبة ضمن ثمانية كتّاب عرب اختارتهم الورشة للإشراف على مشاريعهم الروائية في مرحلتها النهائية، عن هذه التجربة تقول إيناس العباسي: «الكتابة ليست علما صحيحا يُدرّس مثل الرياضيات أو الفيزياء، لكنها لا تعني أيضا الجلوس تحت شجرة الإلهام وانتظار الفكرة، الكتابة هي الالتزام بالجلوس بكل بساطة والعمل على مشروع أدبي وتحريره، ومثل هذه الورشات تجعل الكاتب يلتزم بالكتابة». وتتساءل في ما يشبه الحيرة: « الآن بعد كلّ هذه السنوات والنشر في الخارج هل وصلت كتبي لأكثر عدد من القراء؟ لا أملك إجابة عن هذا السؤال، هل أصبحت «مشهورة» كما قيل لي حين عدت إلى تونس «أنت مشهورة عربيا أكثر من شهرتك تونسيا»، ما معنى ذلك؟ هل وصلت كتبي لأكثر عدد من القراء؟ تبدو الاجابة فضفاضة وغائمة.. صراحة لا أظن أنّ النّشر في الخارج هو ما صنع اسمي فكلّ التحولات الإيجابية التي عرفتها في حياتي كانت نتيجة للكتابة أوّلا وللاستمرار في النشر ثانيا»، وإلى هذين العاملين تضيف الشاعرة فاطمة بن محمود خرّيجة قسم الفلسفة بكلية الآداب عامل التواصل الافتراضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي فتقول عن تجربتها في الكتابة والسفر: «مدينة أنا بامتياز لهذه الثورة التكنولوجية التي نعيشها وممتنّة للنت الذي جعل لنصوصي الأدبية أجنحة وحطّ بي في مطارات كثيرة ومكّنني من صداقات جميلة ومن تجارب مثيرة وأعتقد أنه قدّمني من جديد إلى المشهد الأدبي التونسي الذي أعتبر أني دخلته من خارجه». فاطمة بن محمود أصدرت أربع مجموعات شعرية وكتابا في أدب السيرة الذاتية بعنوان «امرأة في زمن الثورة» ومجموعة قصصية: «من ثقب الباب» فضلا عن تجربة في الكتابة المشتركة مع الكاتب المغربي عبد الله المتقي بعنوان «أحلام تمدّ»، وقد تكثّفت مشاركاتها في المهرجانات الأدبية في السنوات الأخيرة وتنوّعت خصوصا إلى اتجاهات غير مألوفة، فقد أصبحت فاطمة بن محمود اسما أدبيّا تونسيا معروفا في إيران وكردستان والسّودان فضلا عن الجزائر والمغرب.
تقول عن تجربتها هذه: «ثمة قولة قرأتها مرّة وعلى خلاف عادتي لم أنسها «مهما كان القصر فسيحا نحتاج إلى نافذة نطلّ منها على الخارج»، تبدو النافذة ضرورية لنفهم أين نحن وما الذي يحيط بنا، ويبدو أنني لم أستطع نسيان هذه المقولة الجميلة لأنّني أشعر فعلا أنّي لست في قصر فخم وفسيح بل في بلاد لكنها ضيّقة مثل قفص وصغيرة مثل علبة كبريت». تستطرد الكاتبة في وصف الواقع الأدبي في تونس باعتباره أكبر محفّز على الهجرة فتقول: «أشعر أنّ المشهد الثقافي في تونس محدود جدّا، أينما رميت بصري أصطدم بمعوقات كثيرة، فتصبح الكتابة مهمّة شاقّة ومستحيلة كأنّك تسحب فيلا من ثقب إبرة، لا أحد يقدّر دمك المنساب على الورقة، هكذا أصبحت وسائل الاتصال الافتراضية نافذة حقيقية لديّ ومكّنتني أن أرى العالم من حولي وأن أتعرّف على كتّاب ونصوص أخرى مختلفة.. تقول فاطمة بن محمود عن الكتابة والصداقة: «إنّ الصداقة لا تصنع منك كاتبا، لكنّ الكتابة هي التي تصنع لك أصدقاء، فالصداقة مع الأدباء والمبدعين لا تجعلك تكتب نصّا جيّدا أمّا النص الجيّد فهو وحده الذي يجعلك تكسب صداقات مهمّة». هكذا سافرت نصوص فاطمة بن محمود من العربية إلى لغات أخرى مثل الكردية والفارسية وأصبحت الكاتبة عضوا في الاتّحاد العربي لأندية القصة والسرد، فضلا عن مساهمتها القارة في الركن الأدبي لمجلة الإمارات الثقافية.
هذه التجارب الأربع تنتمي إلى مشهد أدبي يفتقر اليوم أكثر من أيّ مرحلة مضت إلى «التنظّم»، فالهياكل الثقافية التقليدية منحسر نشاطها لعدّة عوامل أهمّها العامل المادي، كما إنّ غياب الدوريات المتخصّصة وضمور النشاط الأدبي أفضيا إلى تراجع الحركات والتيارات واضمحلالها، كما إنّ سوق النشر تمتاز بمحدوديتها وضيق أفقها ما عزّز التجارب والمغامرات الفردية حيث يقوم الكاتب بدور المؤسسة للخروج من النطاق المحلّي إلى العالم، لا يتعلّق الأمر هنا بعقدة التفوّق المشرقي الكلاسيكية كما قد يتبادر إلى الأذهان لأوّل وهلة، لكن نشر رواية في دار نشر كبيرة ببيروت أو القاهرة والتوقيع عليها في معرض الشارقة أو الخرطوم ما يزال أمرا يضفي وجاهة على تجربة الكاتب ويعرف أكثر بالأدب التونسي الذي لا يأتي إليه القرّاء غالبا بل ينبغي أن يذهب هو إليهم. ويظلّ السؤال قائما حول دور المؤسسة الرسمية في تبنّي هذا المجهود الفردي والدور الذي ينبغي أن تضطلع به لمعاضدته بدل الاكتفاء بمشاهدته والتصفيق له على سبيل التحية لحظة التتويج.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق