حسين القهواجي والقيروان: قصّة رحلة إلى المُطْلَق
لكلّ زمن من أزمنة الشّعر شهداؤه اللاّفظون آخر أنفاسهم على أسواره المنيعة، لتظلّ الكلمة بلسما للوجدان وغذاءً للرّوح. ولا ريب أنّ حسين القهواجي أحدُ أولئك الذين وإن ضاق عيشهم، لا يضيقون بالحياة ويستهدون في دروبها الوعرة بنور الفكر ووميض الشّعر بينما يُعتم العصر من حولهم غارقا في شروره ويخضع بلا حياء لسلطان المادّة. غادرنا أديب القيروان وكان لا يزال يرقب «فجرا ينهض من خلف الزّيتون»، بعد أن أوهنه السّقم ومكابدةُ الظّروف الصّعبة، تاركا في قلوب إخوانه ومحبّيه خواءً تقصر عن وصفه الكلمات ولوعةً يتعثّر معها اللّسان فلا يفي بحقّه من جميل الثّناء.
مسيرة أدبيّة على دروب شائكة
رحل حسين القهواجي عن الدّنيا في الثّالث من أكتوبر المنصرم، عن سنّ ثمانية وخمسين عاما أنجز خلالها مدوّنة شعريّة وروائيّة ثريّة، إضافة إلى ما نشره في الدّوريّات من مقالات عن الفنون التّشكيليّة وما أنتجه من برامج في إذاعة «صبرة»، وقد أكسبه ذلك الجهد مكانة مميّزة بين أدباء تونس المعاصرين وإن لم يجن منها نفعا ماديّا يذكر. صدرت له مجموعات شعريّة : «ليل المقابر» و«غراب النبوءات» و«أندر من بروق الصيف، أرق من غيمة الخريف» و«يوميات في مارستان» و«كتاب الأيام»، و«الأرواح البيضاء» و«أحفاد سقراط وصلوا قرطاجة». كما نشر نصوصا سرديّة منها «باب الجلادين» و«حومة الباي» و«سوق الوراقين» و«بنقا في زنقة عنقني» و«برّية ذئاب في ثياب».
كُتِبَ عليه أن يواجه الحياة بمفرده وقد انقطع عنه الرّفد والمعونة الصّادقة من أيّة جهة رسميّة أو خاصّة. كان عصاميّا في تعليمه ومنفقا، بالقليل الذي يكسبه، على نشر أعماله إلاّ بعضها ممّا نشره له صديقه عبد الرّزاق الخشين بدار كُنتراست بسوسة.
في الاحتماء بالأدب من فداحة الواقع
لم يغنم الفقيد من التحاقه بفرقة مسرحيّة في أوّل حياته المهنيّة ما يؤمّن له حياة مستقرّة، وزاد من مأساته انفراط عقد أسرته الصّغيرة منذ سنين. حاول حسين القهواجي تجاوز المحنة بتكريس جهده للكتابة وبنى لنفسه عالما ظلّ يسافر فيه باحثا عن مُثُلٍ ورؤى وأفكار تنسيه دمامة الواقع. والعجيب في أمر حسين القهواجي قدرتُه، وهو الإنسان الرّازح تحت وطأة آلامه، على تحويل واقعه المرّ إلى مناخات حالمة من الماضي والحاضر ورؤى مضيئة تمزج الواقع بالخيال، في لغة نقيّة أثيريّة تلقي رداء جميلا شفيفا على عورات العصر ومآسيه، «عصر يجرّ ساقا شلاّء وأخرى من خشب ..» كما يقول في إحدى قصائده من مجموعة «يوميات في مارستان».
محبّ القيروان وصوتها ومخزن أسرارها
وُلد حسين القهواجي بالقيروان في سنة 1959 وأمضى كامل حياته بها؛ سكنَها وسكنتْهُ فكان لا يملّ من التّطواف في معابرها حالما متأمّلا ولا يني يذكرها في نظمه ونثره بولع العاشق المُدَلّه، مُحدِّثا عن ماضيها وحاضرها بحذق العارف المحقّق، حتّى كأنّه لسانُها النّاطق ومستودعُ أسرارها وذاكرتُها الحيّة. وقد سنح لي في ما مضى أن أرافقه في بعض جولاته بين أحياء القيروان العتيقة؛ كان يسلك بي الدّروب المتعرّجة فنجوس خلال الدّور ونقف عند المعالم الشّهيرة أو ندلف إلى أحيازها الخفيّة وهو يروي بصوته المنغّم المتأنّي أمجاد المدينة الماضية وأحوالها الرّاهنة ونُبَذًا من سِيَرِ الرّجال ونُتَفًا من أقاصيص منسيّة في شبه قصيد مسترسل يمزج حماس الانبهار بنَفَسِ المراثي. وما مواضعُ القيروان القديمةكـ «حومة الباي» و«باب الجلاّدين» و«زنقة عنّقني» سوى علامات استدلال في جغرافية روحيّة تمتلئ بها كتاباته ولعلّه يضيف إليها في ذهنه مواقع ومسالك اندثرت منذ القديم مثل باب أبي الرّبيع أو القيساريّة أو دار الإمارة... إنّها طوبوغرافية مطلقة تجتمع فيها كلّ الأمكنة وكلّ الأزمنة ويستهدي الشّاعِرُ بها في أسفاره الدّاخلية. كانت تلك قيروانه الخاصّة يلجأ إليها من قسوة العصر وأهله حتّى أضحى سادنها وعرّافها وصوتها الذي سوف يبقى ما بَقِيَت. غير أنّ صديقنا لم ينقطع يوما عن واقع مدينته وحاضرها، فقد كان مشاركا نشطا في حياتها الثّقافيّة والإنسانيّة، كما كان قريبا من النّاس من كلّ الفئات فأحبّوه لِما أُوتي من دماثةِ خلُق ولينِ جانب ولطفِ معشر حتّى بات في أعينهم معلما من معالم مدينتهم وحلقةً تضاف إلى سلسلة أدبائها المتّصلة منذ القدم.
قصّة عروج النّفس إلى الكونيّة
لم يكن حضور القيروان في أدب حسين القهواجي احتفاء بالواقع المحلّي بل منطلقا نحو الكونيّة الواسعة؛ وتعكس كتاباته سعَةَ ثقافة تاريخيّة وفلسفيّة وفنيّة نلمسها في مجموعته «أحفاد قرطاج وصلوا قرطاجة» ذات المواضيع التّاريخيّة والميثولوجيّة، حيث تكثر الإشارات إلى الأحداث والحكايا والشّخصيّات القديمة في البلاد التّونسيّة وغيرها من مناطق حوض البحر الأبيض المتوسّط؛ فهذه يونان أغاممنون وصافو وسقراط، ومصر إيزيس، وقرطاجة حنّبعل وصوفونيبا؛ ونوميدية يوغرطا؛ يستدعيها جميعا في نصوصه. لكأنّه يعيد كتابة الماضي ـــ على غرار الشّاعر اليوناني كفافي ـــ برؤية تستوقفها أقدار الشّخصيّات التّاريخيّة والأسطوريّة وتجاربها الحميمة ومعاناتها للتّعبير، فيما وراء الحدث المجرّد، عن شمولية الوضع الإنسانيّ. كما يدلّ ذلك المسار على نزوع الشّاعر مطلقا، أيّا من كان وحيثما كان، إلى ذلك المثل الأعلى المرتقي من الخاصّ المحدود إلى العام المطلق في عروج لانهائيّ نحو فضاءات الكون الأرحب:
«بين سمائين سمّرت خيمتي
محوت العالم بجفني
وبتُّ في ثوبها الجوزاء
كعاشقين على فراش واحد...»
(قصيدة «اعترافات» من مجموعة «يوميات في مارستان»)
في انتظار النّهاية
رحل حسين القهواجي ولعلّ أجدر النّاس برثائه الشّعراء إذ ودّعوا أخًا من أصفاهم قريحة وأنقاهم لغة وأصدقهم وجدانا؛ وكأنّي به كان على موعد مع موته الآتي وهو في قمّة العطاء، إذ يقول:
الحياةُ بسطتُ لها كفّي أريد وداعها
فهل أنت مخبري سوء ما يأتي به القدرُ
أعرف سرّ دائي
بازُ قَنْصٍ يسكن عيني
وخيالي مُهْرٌ لا يعرف لجامْ...
وإنّي لأرجو لصديقي حسين القهواجي، وقد غادر الدّنيا، أن يلقى من لدن ربّه الرّحمة والغفران وأن يجد بجواره دارا خيرا من الدّار الفانية بعد أن خبر زيفَها فاتّقاه بصدق الشّعر وعرف بطلانها فاحتمى منه، طوال حياته، بالتّأمّل والحكمة.
علي اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق