الحبيب التّهامي: قراءة سياسية في قانون المالية وميزانية 2018
أيّة قراءة سياسية يوحي بها النظر في مشروعي قانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2018 عند عرضها من طرف الحكومة على مجلس نواب الشعب؟
انطلاقا من هذا السؤال، نشير في البداية إلى أنّ إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2018 حسب الوثيقة الرسمية التي نُشرت في إطار «مواصلة التحكّم في عجز الميزانية وذلك بترشيد النّفقات وخاصة نفقات الأجـور والدعم والاستثمار العمومي وإصلاح الصناديق الاجتماعية». وهذه أوّل مرّة وقع فيها زجّ الحالة المالية للصناديق الاجتماعية ضمن الإشكاليات المالية العامة وهو تقدّم في حدّ ذاته في طريق إعداد ميزانية مالية اجتماعية موحّدة يصوّت عليها مجلس نواب الشعب، ولكنها ليست المرّة الأولى التي تتعرّض فيها مثل هذه الوثيقة إلى نفقات الأجور دون الإشارة بالوضوح الكافي إلى أنّها تعني أجور الإدارة وبعض المؤسسات العمومية لا أجور القطاع الخاص.
لعلّ هذا الخلط مبيّت ومقصود من طرف الحكومة لتلبية مطالب من يدعو إلى ترشيد نفقات الأجور في القطاع العام ولصدّ مطالب من يدعــو إلى المحـافظة على القدرة الشرائية التي تسمـح بها الأجور عامّة وأجور القطاع الخاص بالتحديد.
الملاحظة الأولى التي يمكن إبداؤها بعد قراءة دقيقة تتعلّق بالشكل العام للوثيقة، حيث نستطيع أن نقول إنّ تحريرها وصياغتها ومحتواها لا تختلف كثيرا عن تحرير وصياغة ومحتوى الوثائق بميزانيّات 2015 و2016 و2017 وحتّى لو رجعنا إلى الوثائق الخاصّة بالسنوات التي سبقت 2011 للاحظنا تشابها كبيرا أيضا رغم اختلاف الأوضاع السياسية وتغيّر المعطيات الاقتصادية والاجتماعية ممّا يدلّ على أنّ الوزراء المكلّفين بإعداد الميزانية عجزوا عن إعطاء روح جديدة لما يُعتبر وثيقة مرجعية للتوجّه العامّ للسياسة الاقتصادية والمالية للحكومة. والواقع أن هذا النوع من الاستمرارية يعبّر، أحببنا أم كرهنا، على تغلّب الإدارة على أصحاب القرارمن السياسيين ويكشف عن غياب رؤية متكاملة في معالجة عجز ميزانية الــدولة، ذلك العجــز الذي يتطلب اتّخاذ إجــراءات وقتية تدخل وجوبا ضمن إجـــراءات هيكلية متــــوسطة وبعيدة المدى لا يمكـن أن تحيــــد عنها أو تخالفها بأيّ وجه من الوجوه.
الملاحظة الثانية وهي مبدئية تتعلّق بأهداف الجباية، فلم نلمس في مشروع الميزانية لسنة 2018 أي تغيّر في التّوجّه في هذا الموضوع الشائك حيث استمرت الحكومة في اعتبار الجباية وسيلة لتوفير الموارد المالية للدولة لا غير دون أن تجعل منها أيضا وسيلة لإعادة توزيع الثروة المنتجة. ويظهر هذا في طغيان الضرائب غير المباشرة، وهي غير توزيعية، على الضرائب المباشرة وهي توزيعية كما لا يخفى على أحد. ويظهر أيضا في تغلّب الضرائب المباشرة على الدخل على الضرائب المباشرة على الشركات وتغلّب الضرائب المباشرة على الأجور على الضرائب المباشرة على بقية المداخيل رغم أنّ حصّة الأجور من الناتج الداخلي الخام لا تتجاوز 43 بالمائة على أقصى تقدير، في حين وصلت حصّة الأجور من الضرائب المباشرة على الدخل إلى 70 بالمائة تقريبا وفاقت 80 بالمائة إذا اعتبرنا الأجور الصافية. ولقد كان من الممكن رغم الظروف الصعبة تعديل التوجّه العام للميزانية لجعله يتوافق مع تغيير تدريجي في تركيبة الموارد الجبائية للدولة بالتنقيـص في حصة الضــرائب غير المباشرة وزيادة حصّة الضرائب المباشرة الموظّفة على دخــل غير الأجراء والشركات وهذا لم تتضمنه وثيقة مشروع الميزانية. المـلاحظة الثالثة تنطلق منطقيـا مـن الملاحظة الثانية حيث لا نجد في وثيقة مشروع الميزانية لسنة 2018 ما يشير إلى تصوّر جديد يضع معالجة عجز الميزانية العمومية ضمن خطة تخضع لمنهجيّة تهدف إلى الوصول بالضرائب المباشرة التي هي تصاعدية والضرائب غير المباشرة التي هي نسبية إلى توازن معقول في الأمد المتوسط والبعيد.
لقد اكتفت هذه الحكومة كسابقاتها بالضغط الجبائي على الطبقات المتوسطة والأجراء خاصّة عبر الزيادة في الضرائب المباشرة على الدخل وهي تعلم أن بين 2010 و2016 تطوّرت الضرائب الموظّفة على الأجور من 2006 مليون دينار في 2010 إلى 4107 مليون دينار في 2010 ، في حين تطوّرت الضرائب الموظّفة على الشركات من 2433 مليون دينار في 2010 إلى 1634 مليون دينار فقط في 2016. كما أنّ هذه الحكومة تعلم أيضا أنّ الضرائب غير المبــاشرة - وهي ضرائب عمياء- تطوّرت في الفترة نفسها من 7666 مليون في 2010 إلى 11125 مليون دينار في 2016، ممّا يدلّ على أنّهـا لا تولي أي قيمــة للمحافظة على القدرة الشرائية للأغلبية الساحقة من التونسيين التي تتناقص بفعل غلاء الأسعـار والحال أن لهـذه القدرة الشرائية مفعولا مباشرا على التشغيل والتنمية الاقتصادية وتأثيرا مبـــاشرا أيضا على السلم الاجتمــاعية.
إن كلّ ما تتميّز به وثيقة مشروع الميزانية لسنة 2018 احتواؤها لبعض الإجراءات الفنية والميكانيكية التي تدخل ضمن المثل العامّي «زيد الماء زيد الدقيق» لا غير. والواضح أنّ هذا التمشي لن يحلّ المشكل المتمثّل في التباين المستمر بين مقابيض الدولة الجبائية ومصاريفها وبين كتلة أجور الوظيفة العمومية وتدخّل الدولة في الميدان التنموي. وحتى ولو قدّر له أن يخفّف لدرجة ما في حدّة عجز المالية العمومية في الأمد القريب فإنّ المشكل سيبقي على حاله في الأمد المتوسط لأنّ حلّه مرتبط أساسا بإعادة النظر في فلسفة الجباية ووسائل مراقبتها من جهة، وبمراجعة آليات التصرّف في الأموال العمومية من جهة أخرى. لقد بلغ قيمة الحجم الجملي للتهرب الجبائي بمختلف أنواعه في 2016 ما يقدر بثمانية ألف مليون دينار وهو حجم يفوق مجموع نفقات خدمة الدين العمومي الداخلي والخارجي، أي مجموع الأصل والفوائد (5198 مليون دينار)، ونفقات الدعم الجملية (2211 مليون دينار). وبالتالي فإنّ أي مشروع للميزانية لا يتضمّن بداية حلّ لهذه المعضلة يبقى خارجا عن المنطق وبعيدا عن العدل والمسؤولية وهو ما يمكن أن نصف به مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018.
الحبيب التّهامي
- اكتب تعليق
- تعليق