عامر بوعزة : أيّ ثقافة نريد؟

عامر بوعزة : أيّ ثقافة نريد؟

عندما  رأيت صور مدينة الثقافة في مواقع التّواصل الاجتماعي تذكّرت عبارة قالها في المقامة المضيرية أبو الفتح الاسكندري لما أطنب التّاجر في استعراض أثاث بيته وهو ينتظر الوليمة أمام الخوان: هذا الشّكل فمتى الأكْلُ؟ لكنّني بعد مشاهدة وقائع حفل المعاينة الذي أقيم لرئيس الحكومة وتفرّس وجوه المثقفين الذين تقدموا الصّفوف يومها وأطلوا برؤوسهم من شاشات التلفزيون ليثمّنوا هذا المشروع ويمنحوه بركاتهم انتبهت إلى أنّ السؤال ينبغي أن يُطرح بشكل مغاير: هذا الشّكل فما هو الأكلُ؟

الذين تصدّروا الصّفوف الأمامية يومها كانوا من نجوم التّلفزيون ممثلين ومغنّين، لم نر كتّابا أو شعراء أو رسّامين، والذين توجّهت إليهم ميكروفونات وسائل الإعلام كانوا من هذه الدّائرة لا غيرها، فالثقافة بطابعها الاستهلاكي اليوميّ المباشر هي التي فرضت نفسها على المشهد الاحتفالي، قد لا يكون هذا مقياسا موضوعيّا للحكم على توجّهات المدينة قبل أن تبدأ عملها، لكنه مؤشّر ينبغي أن يُقرأ له ألف حساب، وسببٌ وجيه لطرح كثير من التخوّفات، أوّلها الخوف من عدم تناسب الطاقة الإبداعية الوطنية مع حجم هذا الفضاء وطموحاته، وما إذا كانت المدينة ستفتح بسبب ذلك ربما أبوابها لكل من هب ودب ولكل أنماط التعبير المثيرة للجدل على غرار أغاني الرّاب وغيرها بتعلة "تلبية كل الأذواق" كما حصل في مهرجان قرطاج الدولي وغيره من المهرجانات.

لا شكّ أن المقاربة الانتقائية تفرض نفسها بقوّة طالما أننا أمام مرفق تموّله المجموعة الوطنية، فالسّؤال عن المحتوى تتردّد فيه أصداء أسئلة أخرى: أيّ ثقافة نريد؟ وأيّ دور للثّقافة في مجتمع اليوم؟ وما هي وظيفة السّلطة التنفيذية في المجال الثّقافي؟ هل يقتصر دورها على توفير الدّعم لمن يطلبه أم تضع السّياسات العامّة وتسهر على تنفيذها؟ وهي مسائل خلافيّة في كل الأحوال. فوزارة الثّقافة هي لدى بعض المنتجين ضروريّة لتقديم الدّعم المادي لا غير، أمّا المحتوى فالحرّية الإبداعيّة تشترط عدم التّدخل فيه، كما إن الحرّية تقتضي لديهم عدم التّفريق بين مختلف أنماط التعبير، لاسيّما إذا كانت تحظى بشعبية تجعلها مربحة ماديا مثلما هو حال أغاني الرّاب وموسيقى الهيب هوب. والرأي عندنا أن دور الوزارة أكبر من أن يكون "الدّجاجة التي تبيض ذهبا" بين أيدي بعض قنّاصي الفرص دون سواهم، الوزارة جزء من الدولة الوطنية التي لا يمكن أن ينهض بنيانها الاّ على أساس ثقافي صلب، ولا نتحدث هنا عن الصناعات الثقافية بل عن المضامين، فكل التعبيرات التي تحمل أفكارا هدّامة تتعارض وقيم المجتمع لا مكان لها في المرفق العام، ليس هذا إقصاء بل هو ضرب من التّدافع الشّرعي والمنطقي بين التعبيرات ومحتوياتها القيمية، إن هذه التجارب التي تستقطب الملايين من اليافعين والمراهقين على شبكة اليوتيوب وتتسابق لتقديمها قنوات تلفزيونية متحرّرة من كل الإكراهات القيمية والضوابط الأخلاقية لا ينبغي أن تحظى بمباركة وزارة الثقافة ولا دعمها.

ليست مدينة الثقافة قاعة أفراح كبيرة يمكن لكل من يدفع الثّمن أن يكتريها لوقت من الزمن، والاّ فيا خيبة المسعى، بل نطمح إلى أن تستردّ وزارة الثقافة بمناسبة هذا الإنجاز زمام المبادرة وأن تفرض كلمتها، أولا بالتخلّص من التبعيّة المهينة لوسائل الإعلام المرئيّة والقنوات الخاصة المنفلتة، وثانيا بوضع استراتيجيّة عامّة ذات أهداف واضحة تعيد للفعل الثقافي أهميته في التنشئة الاجتماعية وتحقّق التوازن المطلوب بين ما هو سائد بحكم قانون السوق وما ينبغي أن يسود بالنظر الى أهمية الثقافة الأصيلة في حياة أي مجتمع وديمومته.

عامر بوعزة
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.