احميده النيفر: الخطــب الجُمَــعِـــيّــــة, عن الفرص الضّـائعة ؟

احميده النيفر: الخطــب الجُمَــعِـــيّــــة, عن الفرص الضّـائعة ؟

1 - «لو أصبح لدينا من المساجد- الجامعة ما عندكم نلتقي فيها أسبوعيا بجمهور يستمع ولا يُعَقِّب على تفاسيراتنا وتوجيهاتنا، لو تحقّق لنا ذلك لصنعنا في تونس العجب العُجاب». هكذا تحدّث زميل «يساري»، هازلا – جادّا، منذ سنوات خلت في لقاءات قاعة الأساتذة عند الحوار في قضايا تونس المختلفة.

2 - أستعيد تقييم الزميل لعموم الخطب المسجدية منذ عقود لأنّه يفرض التّساؤل: هل حصل تغيّر يُذكَر اليوم؟ وهل يجوز القول إنّ الثّورة قد أنهت زمن تلك الفرص الضّائعة؟ وإلى أيّ حدٍّ مكَّن منسوب الحريّة للخطاب المسجدي من التميّز والعمق ما يسمح بالتنبيه قبل الخطبة بأنّ مَن قال لصاحبه أنصتْ والإمام يخطب فقد لغا وأنّ من لغا فلا جمعة له...

للإجابة ينبغي التّذكير ببعض المعطيات المتعلّقة بوضع الخطابة المسجدية اليوم وما يمكن أن ينتظر من الإمام الخطيب لمواجهة التحديات المتعاظمة وما توفّره وزارة الشؤون الدينية من إمكانيات تكوينية وتدريبية ومادية تسعف بها الأئمّة الخطباء في مهمّتهم الصّعبة.

3 - للعلم يجدر التذكير أوّلا بأربعة أرقام دالّة، يتعلّق أوّلها بعدد أئمّة الجمعة في كامل الجمهورية وهو يناهــز 4500 إماما ليس منهـم سوى 6 % ممن تحصّل على شهادة جامعية في العلوم الشرعية وأنّ 4 % منهم فقط متمكّنون من فنّ الخطابة وفق رسالة ماجستير اهتمّت بالتمكُّن من آليّة التواصل الناجع. يتصل رابع الأرقام بالتّركيب العُمُري للأئمّة الخطباء والذي يبيّن أنّ 62 % منهم من فئة الستين سنة فما أكثر.

يضاف إلى هذا جانب مضموني خطير متّصل بطبيعة الخطبة الجمعيّة وما تعالجه من مواضيع وقضايا. في هذا المستوى تطرح من جهة أسئلة عن طبيعة الخطاب وعن مواصفاته ومرتكزاته ليتبيّن أنّه يراوح بين خصائص خطاب جلد الذات المؤدّي إلى الإحباط وبين التجييش المقارب لخطاب سلطة وبين السعي إلى خطاب معرفة يركّز على المسائل الفقهية والعقدية وما يناسبها من نصوص تراثية منتقاة. عند متابعة جانب القضايا المحورية التي تتناولها الخطب الجمعية يبرز الإشكال المنهجي الموقِع في التباس خاصّة عند اعتماد المفاهيم الفارقة من قبيل التمييز بين الدّين والتّديّن والتراث والموروث والقدوة والإسوة وكيفيّة التعاطي مع السيرة النبوية ومع عقيدة الولاء والبراء. هي قضايا تستدعي وعيا بعلاقة المؤمن بعصره وكيف يكون الانتساب ناجعا إلى وطن محدّد جغرافيا وتاريخيا وقانونيا مع انتماء إلى أمّة لها مقوّمات عَقَدِيّة وتصوّرية وقيمية وسلوكية وتمثّلا لمعنى مدنيّة الدولة واستتباعات ذلك على بناء الأسرة المعاصرة ومكانة المرأة فيها وما ينتج عن ذلك لتربية الأبناء. هذا فضلا عن طبيعة المنهج الذي يستند إليه الإمام في خطبته لتفهيم النص القرآني والنبوي وبأيّ معنى هو نصّ مرجعي مؤسّس وآثار ذلك ضمن جملة من المسائل الحارقة المستجدّة كالجهاد والقتال والإيمان والكفر والإعلاء من مركزيّة الدّولة إزاء مشاغل الأفراد وطاقات المجتمع وحاجاته؟

4 - في هذا الجانب المرتبط بالتّكوين المعرفي وما يقوم عليه من بناء فكري وحسّ نقدي للواقع وللتاريخ يبرز افتقار الخطاب المسجدي إلى اتّساق مضموني ومنهجي. هذا بينما المفروض تحقيق رؤية متناسقة في معارفها وثقافتها ومتجانسة فيما تنتجه من دعائم الأمن الروحي والتّوازن النّفسي والتّربوي. مثل هذا القصور الفادح لمخرجات الخطبة الجمعية لا يمكن الاقتصار فيه على معالجات فردية وجهود عصامية ينجح فيها بعض الأئمّة. عند هذا الحدّ يطرح سؤال ما توفّره وزارة الشؤون الدينية لمعالجة هذا الخلل؟ تعبّر الأرقام هنا أيضا بصورة كافية عن محدودية ميزانيّة الوزارة البالغة 99,802  م.د. لسنة 2017 أي أقلّ من 0,4 % من الميزانية العامة للدولة. اللّافت أنّ 97 % من مجمل ميزانية الوزارة مُوَجَّهٌ  لرواتب الموظّفين وأنّ مليارين يخصصان سنويا لتهيأة المساجد واستصلاح المنشآت الدينية أمّا تكوين الأئمّة فزهيد لا يتجاوز الـ5000 د.ت. 

5 - إزاء هذا الوضع طُرح اقتراح المطالبة بضرورة تأميم الحياة الدّينيّة لوصلها أساسا بالمجتمع واحتياجاته وقدراته. تكون للدولة مهمّة المراقبة لتطبيق القانون بينما تترك الحرّية للفاعلين الدينيين للقيام بمهامّهم في مجال تكوينهم واهتمامهم وللتعبير عن ذواتهم بعيدا عن المخاوف والتّعليمات. هو اقتراح يقطع مع تقليد ارتبط غالب الأئمّة والوعّاظ بمقتضاه بالحزب الحاكم والجهات الأمنية المتنفّذة.

المسلك الذي اختاره بعض من تولّوا وزارة الشؤون الدينية بعد الثّورة كان مغايرا لاقتراح التأميم مع الحرص على معالجة القصور في التكوين والإشعاع. أهمية هذا الاختيار في انفتاحه المدروس على المجتمع المدني وجمعياته المهتمّة بالشّأن الديني من أجل تطوير نوعي لخطابه، وهو رغم محدوديته فإنّ أهميته في تأسيس علاقة تعاون إداري ومضموني غايتها إنهاء حالة التّواكل النّاتجة عن الاقتصار على المؤسّسات الرّسميّة للدولة.

من أهمّ هذه التجارب يبرز مشروع «اليد في اليد لمكافحة التطرف العنيف والإرهاب» نموذجا مميزا في التعاون مع إحدى جمعيات المجتمع المدني التي اعتنت بمسألة تأهيل الأئمّة والفاعلين الدينيين في قضايا المواطنة والديمقراطية. يدير «مركز دراسة الإسلام والديمقراطية»، تكوينًا وتدريبًا، هذا المشروع الجديد المدعوم ماليا من الحكومة الكندية وبالتعاون مع وزارة الشؤون الدينية. يهدف المشروع إلى التوقي من التطرف العنيف بتفكيك مرتكزات خطابه المتشدّد والإسهام في وضع معالم خطاب بديل مقنع ومتجذِّر ومعاصر. في ذلك استعان المركز بثلّة من الكفاءات التونسية المختلفة في العلوم الشرعية والمختصّين في القضايا الحضارية وعلم النفس والاجتماع مع خبراء في التّدريب على المواطنة وفضّ النّزاعات والتّواصل باعتبار أنّ من أولويّات المشروع ضرورة ملء الفراغ الدينيّ بتركيز المكانة العلمية والاجتماعية والتواصلية للإمام الخطيب.

6 - يستهدف المشروع في التكوين والتوعية والتدريب الفاعلين الدينيين    (400 أمام خطيب) وروّاد المساجد والأساتذة المدرّسين وخاصّة الشباب المعرَّض للاستقطاب. تتمثّل خصوصية أنشطته في دورات تدريبية في التربية على المواطنة وإدارة النزاعات والتواصل مع أيام دراسية عن قضايا اللاعنف وحرية الرأي والضمير وحق المرأة ومفهوم الجهاد في الإسلام وآداب إدارة الاختلاف والتصدّي للإحباط بفتح آفاق الأمل. تضاف إلى هذا حملات توعية عبر وسائل الاتصال الحديثة (موقع المركز- الفايسبوك – اليوتوب) وحلقات نقاش في المناطق الخمس المستهدفة: تونس- بنزرت- القيروان- القصرين – مدنين. دعم هذا المشروع يحتاج إلى توقّف لأن تأهيل الأئمة في تونس قد يبدو هامشيا بالنسبة إلى أولويات كندا في التعاون الذي ينبغي التركيز عليه.

7 - عند تأمّل المشروع في أهدافه وهيكلته يتبيّن أنّ الاختيار الكندي يعمل على الإسهام في بناء منظومة الأمن الأهلي الشّامل معتبرا أنّ للفاعلين الدينيين مكانة هامّة ضمن هذا البناء.

من جهة ثانية تتوخّى الحكومة الكندية تطوير تصّوراتها وممارساتها الميدانية في القضايا الشّائكة بتشريك فعلّي لجماعات المجتمع المدني استباقا للمخاطر والتوترات لحسن إدارتها وتحويلها إيجابيا. مثل هذا التصور الاشتمالي بمقاربته المنفتحة المراهنة على المكوّنات المجتمعية في صناعة القرارات والارتقاء بالوعي الجمعي يلقى صدى لدى  عدد من دول أوروبا الغربية من أهمّها ألمانيا وسويسرا وإسبانيا وأنجلترا.  أفضل مثال عن هذا التحول الخطير في التّعاطي مع ملفّ تهديدات التطرف العنيف تقدّمه إسبانيا بعد حادث دعس بمدينة برشلونة، في أوت 2017، أدّى إلى قتل 13 شخصا وإصابة 100 وأعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عنه. ما نشره المختصّون الإسبان بعد ذلك يؤكّد أنّنا أمام خيار جديد يبدو مُلْغِزاً. هو إقرار بأن «المورد غير المرئي ضدّ التطرف العنيف هو الإسلام نفسه «. لقد انتهى تحليل وضع «الجهاديين» الشباب المورّط في التطرف العنيف إلى أنّهم إسبان ومن الجيل الثاني المغاربي وأنّ معرفتهم بالإسلام محدودة وباهتة (18 % منهم له معرفة سطحية بالدين) وأنّ التقديرات التي شملت 70000 تلميذ مسلم من إقليم كتالونيا يثبت أنهم جميعا لم يدرسوا شيئا عن الإسلام. وأنّ  20 % منهم قضى عقوبة سجنية قبل إيقافه. يخلص الباحثون إلى أنّ هناك حاجة لتجاوز استبعاد التكوين الديني في عملية اندماج سليم للعناصر الشابة والوافدة على إسبانيا.

إنّها قضيّة التّكوين والتّأهيل تفرض نفسها بوضوح، هناك، وهي في تونس أوكد خاصّة بعد أن يفاجئك إمام خطيب في دورة تدريبية بقوله: أنا في حيرة، أقرأ القرآن فأجد فيه تأكيدا على السّلم والتّراحم وأجد فيه ضربَ الرِّقاب وشدّ الوِثاق فلا أدري كيف أُقنع المصلِّين بما لم أتمكّن من فهمه!

احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.