الإنقــاذ مازال ممكنا... لكـــن إلى حـــيـن

الإنقــاذ مازال ممكنا... لكـــن إلى حـــيـن

تستأنف في الأيام القليلة المقبلة محادثات جديدة بين الحكومة وصندوق النقد الدولي في واشنطن، في إطار الاجتماعات السنوية للصندوق، بعدما انتهت جولة أولى من المحادثات قامت بها بعثة أوفدها الصندوق إلى تونس في مطلع أكتوبر. وتتزامن هذه اللقاءات مع تقديم الحكومة مشروع قانون المالية الجديد إلى مجلس نواب الشعب، وما سيُثيره من مناقشات وتجاذبات.  تقليديا، يُعتبر صندوق النقد الدولي مصدر وصاية وإملاءات مُشطّة على الحكومات التي تضع رأسها بين كفّيه، فيما يرى فيه آخرون (وهم قلة) خيارا أوحد لإعادة تدوير عجلة الاقتصاد الوطني. والحقيقة أنّ هذه المؤسسة المالية الدولية، بما لها وما عليها، لا تطرق أبواب الحكومات، وإنّما تذهب إليها الحكومات في أوقات الاختناق للاقتراض منها، بأسعار فائدة متفاوتة وبشروط مختلفة من بلد إلى آخر.

لن يُقرضك أحد طالما عرف أنّك معدم وليست لديك موارد لتسديد الدين، لكنّه سيعرض عليك المزيد إذا ما أيقن أنّك ستكون غدا في وضع مُريح. من هنا نفهم أنّ بعثة الصندوق أتت لـ»دراسة الآفاق الاقتصادية والسياسات التي تعتزم السلطات (التونسية) وضعها موضع التنفيذ، في إطار برنامج الإصلاحات الاقتصادية التي تعتزم تطبيقها، والمدعوم باتّفاق رباعي يحمل عنوان «الآليات المُوسَعة للإقراض»، كما جاء في بيان رئيس البعثة. ولسنا ندري عمَ ستُسفر هذه «الدراسة»، وكيف ستُراجع الحكومة خطتها الإصلاحية، إذا اتضح أنها لم تستجب لمعايير الصندوق؟

حلول موازية 

إذا ما نزعنا الهالة الدعائية التي نُسبغها على صندوق النقد الدولي (إن سلبا أم إيجابا)، سنجد أنّ التعامل معه أيسر مما نتصوّر، وهو يتوقّف في قسم كبير منه على مدى قدرتنا على إيجاد حلول موازية تنطلق من إمكاناتنا الذاتية. وكان يمكن أن يكون تعاملنا مع الصندوق شفّافا وقويّا لو بادرنا في الوقت المناسب، بإدخال الإصلاحات التي لا مناص منها على بنية اقتصادنا، والتي أجّلتها الحكومات العشر التي تعاقبت علينا منذ 2011 لأسباب انتخابية.  ولا أظنّ أنّ هناك اختلافا جوهريا مع الصندوق على ضرورة اعتبار خلق فرص الشغل واحتواء الدين العمومي المتصاعد في قلب أولويات الإصلاح الاقتصادي. كما لا يمكن أن نختلف على ضرورة تحسين إدارة كتلة الأجور، التي تشكلّ إحدى أكبر الكتل في العالم، وهي تبتلع نصف النفقات العمومية. سنختلف ربّما على الطريقة المثلى لإدارتها، لكن مواقفنا لن تتباعد حين يتعلّق الأمر بضرورتها المُلحّة اليوم لإيقاف النّزيف.

المحور الثاني الذي يُؤرّق المجموعة الوطنية هو عجز الميزانية المتفاقم، الذي يقترح قانون المالية الجديد معالجته بإصلاح واسع للمنظومة الجبائية. لكن هذا الإصلاح لا يكتسب معناه إلاّ إذا ما وضعنا دراسة علمية لمعرفة من يدفع الضرائب، ومن لا يدفع؟ وسنكتشف قطعا أنّ الدولة تخسر أموالا طائلة من الضرائب التي كان يمكن جبايتها، لكنّها لا تُجبى لأسباب شتّى، ليس التهرّب الضريبي سوى واحد منها. وستُفيد تلك المداخيل في دعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة بما يزيد من فرص التشغيل ويُنشّط التصدير، الذي يدرّ العملة الصّعبة. كما أنّ الحوكمة والمراقبة الصارمة للمؤسسات العمومية ستحدّان من هدر المال العام وتساهمان في إيجاد موارد للإنفاق على قطاعات ذات أولوية مثل الصحة والتعليم.

الثّقة مشروخة

غير أنّ جميع هذه الخطوات الإصلاحية متوقف على شرط أساسي واحد هو مدى رسوخ الثّقة بين الحكومة والشعب. والثّقة مزاج سياسي يستقرّ في النفوس حين ترى إجراءات عملية، مصداقا للخطاب السياسي المُتصدّي للفساد مثلا. والثّقة هي التي تُطهّر أيضا المناخ السياسي من ظلال الرّيبة التي ركب على صهوتها بعض مُشعلي الحرائق، لتعطيل قطاع الفوسفاط ثم قطاع النفط، ومازالوا يبحثون عن ولاَّعات أخرى، ولو بالنّفخ في الرّماد. لكن هذه الثّقة مازالت مشروخة بسبب طغيان المحاصصات على سلوك الحكومات، المُرتهنة لأحزاب ما فتئت قاعدتها الاجتماعية تتآكل. وأظهر سبر آراء قام به «المركز الجمهوري الدولي» (أحد اللوبيات المؤثّرة في أمريكا) أنّ التونسيين يشعرون بخيبة أمل عميقة، وأنّ 41 في المئة منهم لا يعتزمون التصويت في الانتخابات البلدية المقبلة، وحتّى الذين سيقترعون لا يعرفون لمن سيمنحون أصواتهم. وتبلغ نسبة أولئك الحيارى 83 في المئة، وهي نسبة مُخيفة. وإذا ما دقّقنا في سبب القلق وانعدام الثّقة سنعثر عليه في شعور 89 في المئة من التونسيين المُستجوبين بأنّ الفساد زاد في السنوات الأخيرة، وأنّ 54 في المئة من المُستجوبين ليست لديهم ثقة في الأحزاب السياسية، بحسب نتائج سبر الآراء.

أخفقنا في استقطاب الاستثمارات

يؤثّر توفّر الثّقة أو عدمها في دعامة أخرى من دعامات الانتعاش الاقتصادي وهو الاستثمار، وبخاصة الاستثمار الأجنبي. ولم نر حتى الآن حصادا نوعيا على الميدان لمؤتمر الاستثمار تونس 2020 الذي قُدّمت خلاله وعود سخيّة مازال أكثرها لم يُنجز. ولعلّ من المبادرات الإيجابية عقد اجتماع الشهر الماضي في نيويورك، على هامش الاجتماعات نصف السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، لتقويم الخطوات التي أنجزت. ونحن بحاجة لإيلاء هذا الملفّ اهتماما خاصّا، لاسيّما أنّ الصورة التي يحملها المستثمرون العرب والأجانب عن مناخ الاستثمار في تونس مازالت سلبية. ومردّ هذا الشعور إلى عنصرين أوّلهما ثقل البيروقراطية الإدارية، التي جمعت بين مُخلّفات الإدارة العثمانية وإرث الإدارة الفرنسية، المتخلّفة أوروبيا. وثانيهما الفساد الذي اكتوى بناره كثير من المقبلين على الاستثمار في تونس، حتى فضّل بعضهم العدول عن مشروعه وغادر البلاد. وعطفا على سبر الآراء الذي قام به  «المركز الجمهوري الدولي»، أظهرت تصريحات المستجوبين أنّ 17 في المئة منهم أقرّوا بأنّهم أعطوا رشوة إمّا في مستشفى أو لشرطة المرور أو لأعوان البلدية. من هنا يبدو المُضيّ في الحرب على الفساد، من دون حسابات حزبية أو مراعاة لتوازنات زائفة، أداة مهمّة من أدوات طمأنة المستثمرين وحفزهم على جلب مشاريعهم إلى بلادنا.

إمكانات مهدورة

في هذا السياق يشكّل التّقليل من الحركات الاجتماعية شرطا من شروط الاستقرار الذي يجلب الاستثمار ويُحسّن أداء الاقتصاد، وأفضل مثال على ذلك ما وفّره تراجع الاعتصامات والإضرابات في الحوض المنجمي من زيادة في الإنتاج هذه السنة، إذ يُتوقّع أن يبلغ 5 ملايين طن، أي بزيادة تُقدّر بـ34 في المئة مقارنة بحجمه في 2016. لكن الفرحة لا تكتمل لأنّ الفوسفاط المستخرج لا يجد طريقه إلى المعالجة والتكرير في مصانع قابس إلا جزئيا، بسبب سوء حالة القطارات التي انتهت صلاحيتها ولم يتم تجديدها، ممّا جعل الشركة تلجأ للنقل بواسطة الشاحنات، وهي أعلى كلفة وأكثر خطرا على مستعملي الطريق. ولهذا السبب لم يُحقّق إنتاج مشتقّات الفوسفاط سوى زيادة ضئيلة لا تتجاوز 10 في المئة، وفي بعض الأصناف فقط، فماذا لو جدّدنا أسطول القطارات، لكي نرفع من مستوى الإنتاج ونشرع في محاولة استرجاع الأسواق التي خسرناها في السنوات الأخيرة؟

وما يُقال عن الفوسفاط يمكن أن ينطبق أيضا على النفط والغاز، فكثرة الحركات الاحتجاجية عطّلت الإنتاج وجعلت أعمال البحث والتنقيب تتعثّر، إن لم تتوقف تماما، جرّاء المناخ الاجتماعي المضطرب. من هنا يتضح أنّ مجالات اقتصادية عدة تمنحنا فسحة الإصلاح الذاتي، الذي يُغيّر من ميزان القوى في مفاوضاتنا مع سائر المُقرضين، وليس مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فقط. ولكن هذا الجهد يتطلّب كثيرا من الحزم والتصميم، ويحتاج إلى وضع الملفّات على مائدة الحوار الصّريح مع الأطراف الاجتماعيّة لتحقيق الإنقاذ الاقتصادي وتجنيبنا الارتهان إلى المانحين الدوليين..

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.