التواصل المرجعي للأمن والتنمية البشرية المستدامة في ليبيا
تمهيد
تأتي هذه المقاربة لتسليط الضوء على العلاقة التشابكية (الديالكتيكية) بين الأمن والتنمية البشرية المستدامة . في اتجاه بيان لازمية كل واحد منهما للآخر فلا تنمية بشرية مستدامة بدون أمن ولا أمن بدون تنمية.
وتعرج هذه المقاربة على مرجعيات دولية ومعطيات واقعية حول التواصل بين ما تشهده بقضها وقضيضها من حالات الانفلات الأمني وإحياء النعرات والصراعات القديمة وتفتيت شمل الوطن وما يعكسه كل هذا من حالة الفوضى المدمرة وهشاشة الدولة بل وحتى تحويلها بدرجة أو بأخرى إلى دولة مستباحة . وفي هذه المقاربة تأكيد على أن هذه الحالة تزيد من مأساة ليبيا وتهدد وجودها من أساسه وتتجاوز التطلع للتنمية إلى حالة وقف التدهور وإدارة الأزمة وتختم هذه المقاربة بالتأكيد على أن ما يجمعنا نحن الليبيون ويوحد صفوفنا ويقوي عزيمتنا هو أكبر بكثير مما يمزق شملنا ويذهب ريحنا ويهدد وجودنا.
مقاربات التواصل المرجعي للأمن والتنمية البشرية المستدامة
التنمية البشرية المستدامة تعني ما هو أكثر من مجرد الناتج الإجمالي المحلي وارتفاع مستوى الدخل الوطني . إن التنمية البشرية تعني إيجاد بيئة يستطيع فيها الإنسان الليبي أن يشعر بالأمان ويحظى بشبكة الأمن والسلم الاجتماعي وأن يستثمر كامل طاقاته وقدراته باتجاه تحقيق حياة آمنة ومستقرة وصحية ، ومديدة ، ومرفهة ، وتوسيع الخيارات والفرص أمامهم في فرص تعليم عالي الجودة ومتقدم النوعية وخدمات ومرافق ومؤسسات ونظم ترقى لمستوى ما وصل إليه العالم في عصر العولمة والمعرفة الرقمية.
إن واقع الحال الليبي يؤشر إلى تراكم التأزم في وقائع الحياة الاجتماعية بمفهومها العام مع تراكم غير مسبوق في مهددات الأمن والسلم الاجتماعي وتوقف شبه تام في برامج ومشروعات التنمية البشرية وتدهور ملحوظ في الرصيد القائم منها . فالليبيون يعيشون حياة مشوبة بالخوف والحذر والتهديد والخطر والانقسام والانتقام والتشرذم والعنف وهذه كلها معطيات غير محابية للتنمية ولا مؤسسة ولا حتى داعمة لها.
إن الانعدام شبه الكامل للأمن الشخصي والاجتماعي والسياسي وغيره هو انعدام لفرص التنمية والاستدامة ، وهنا يمكن الإشارة إلى ما تناوله تقرير التنمية الإنسانية العربية (-6:2009) بالتأكيد على : " إن أمن الإنسان وأمن الدولة ككل هما وجهان لعملة واحدة فضمان أمن الإنسان يؤدي ليس فقط إلى المزيد من فرص التنمية البشرية بل إلى سرعة الخروج من حالة التدهور الذي يعيشه الوطن بكامله ".
إن المسؤولية الرئيسية التي أكد عليها التقرير المذكور في توفير أمن الإنسان تقع على عاتق الدولة ولكنه يحذر من أن سياسات القوى الخارجية لم تكن مساعدة ولا داعمة في هذا المجال. لقد " تركت التدخلات الأجنبية وطأة مدمرة على أمن الإنسان في المنطقة العربية عموماً بالمعنى الفوري المباشر للكلمة ، كما أنها ألحقت الأذى بإمكانات النجاح التنموي والأمني على المدى البعيد " ( تقرير التنمية العربية (-6:2009).
إن المقاربة المرجعية لتواصل الأمن بالتنمية تقود إلى المفهوم الواسع للأمن والمفهوم التحولي للتنمية باتجاه التنمية البشرية المستدامة . ومن المؤكد أن الأوضاع الأمنية بعد انهيار النظام السابق والتوقف شبه الكامل لمشروعات التنمية كان ولازال يشهد اضطرابات وتحديات غير مسبوقة وانفلات أمني وانتشار مريع للسلاح خارج سيادة الدولة لقد ضعفت بل تلاشت قدرة الدولة على فرض السيادة وعجزت حتى عن ضمان أمن الإنسان الليبي في حياته المعيشية الأمنية وزادت مؤشرات الفقر والنزوح والبطالة وحدة النزاعات الأهلية والأزمات المتكررة والمتفاقمة (أزمة السيولة النقدية – أزمة تصدير النفط – ارتفاع سعر الصرف .... الخ )، ولأن الخروج من حالة التأزم والفوضى التي يمكن وصفها بالمدمرة (Destructive chaos) يتواصل تبادلياً مع التنمية البشرية ومع الاستدامة فإنه لا تنمية ما لم يتحقق الأمن ولا أمن بدون تنمية مستديمة تقود البلاد خارج إطار التأزم إلى حالة من الاستقرار والتقدم.
نحو مقاربة المفاهيم
يتخذ أمن الإنسان في ليبيا دلالته ومرجعيته من واقع الحال الليبي ومن الإطارالمفاهيمي العالمي ، فأمن الإنسان في تقارير التنمية البشرية الدولية هو " الأساس الرئيسي للتنمية " . وهو معنيٌّ بتمكين الإنسان الليبي وقد أجهدته حالة النزاع والتشرذم وغياب سيادة الدولة والانفلات الأمني وغيرها للوصول إلى حالة من الأمن والأمان والسلم الاجتماعي بمفهومه الواسع وعلى تجاوز واحتواء المخاطر والمهددات التي تعيق انتظام حياته في إطار تواصلي مع مفهوم التنمية البشرية التي هي توسيع للخيارات والفرص أمام الإنسان الليبي في حياة مديدة وصحية وآمنة ومرفهة ومستدامة وبناء قدراتهم ورفع كفاءاتهم وتجاوز خلافاتهم.
مهددات الأمن والسلم الاجتماعي في ليبيا وتحقيق التنمية البشرية المستدامة
تدفع حالة الانفلات الأمني والنزاعات المسلحة والانقسام السياسي والصراع القبلي باتجاه المزيد من العنف والعنف المضاد ومزيد من عدم الاستقرار وإطالة عمر الفوضى المدمرة (Destructive chaos) وهذه الحالة لا يمكن أن تؤسس لتنمية بشرية بل تؤدي إلى تقويض الرصيد التنموي المنجز وتزايد حاد في المشاكل والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وانتشار الانحراف والجريمة والجوع والفقر والحرمان والتشرد وما إليها ، ويمكن مقاربة أهم هذه المهددات في البيان التالي : -
1. البيئة الليبية غير آمنة بكل المعطيات وبكل المقاييس وهذه الحالة من غياب الأمن ليست بالأمر البسيط بل هي معقدة ومتشابكة ومتنامية ومرعبة.
2. في أوضاع غياب شبه كامل لدور الدولة الليبية في حفظ الأمن وانتهاك سيادة الدولة ومؤسساتها والتأزم المالي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني يكون الحديث عن التنمية البشرية المستدامة وتحدياتها حديثاً في غير زمانه رغم حاجة المكان إليه ليكون بلداً آمناً مستقراً في أوضاع النزاعات المسلحة وتنازع السلطة وتعدد الكيانات السيادية وازدواجية بعضا وانتشار السلاح وتراكم العنف والعنف المضاد تكون لا البيئة ولا الظروف مواتية للتنمية البشرية المستدامة رغم الحاحيتها وضرورتها ويتجه الفكر التخطيطي التنموي إلى تحديد أولويات اجتياز وإدارة الأزمات قبل الحديث عن خطط للتنمية البشرية المستدامة.
3. في مثل هذه الوضعيات تتنامى مهددات الأمن والسلم الاجتماعي والمخاطر التي تهدد الناس في حياتهم ومعيشتهم ومصادر رزقهم وتصبح الأوضاع في حالة من الفوضى وهشاشة الدولة واستباحة مواردها.
وفي هذه الأوضاع تصبح مسألة التنمية البشرية واستدامتها خياراً صعب المنال إذ أنه لا يتأتى القيام به في ظل أوضاع التأزم والفوضى المدمرة وهشاشة الدولة ولتمهيد تأسيس استعادة العمل التنموي يأتي خيار إدارة الأزمة مقدمة لا محيد عنها.
4. إن مفهوم أمن الإنسان في ليبيا يدفع باتجاه مرجعية مناسبة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي في إطار مرجعية دستورية متفق عليها أو متوافق عليها ، فلا تستطيع ليبيا في ظل معطيات الواقع المتدهور أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وصحياً وتعليمياً وثقافياً . أن تحرر الليبيين من الخوف والحاجة ومن مهددات الصراع والنزاع المسلح يتطلب دستوراً متفقا عليه وقد تأخر بالفعل إنجازه وتأخرت بالتالي الحلول والمسارات الداعمة للتحول إلى حالة التنمية والأمن والاستقرار.
التأثير التشابكي بين الأمن والتنمية في ليبيا
في جدلية (هيجيلية Hegel) هي العلاقة بين الأمن والتنمية ، فهل تكون تنمية بشرية مستدامة عندما لا يكون الإنسان في ليبيا وغيرها متحرراً من التهديدات الشديدة والمتنامية والمعقدة والمنتشرة والممتدة عبر (الزمكنية) التي تهدد معيشته ونشاطه . العلاقة إذاً بين التنمية والأمن ليست طولية بمفهوم منهجيات البحث الاجتماعي (Linear Relationship) بل هي متبادلة (Reciprocal) فغياب التنمية يخلق ظروفاً مواتية وداعمة لغياب الأمن وغياب الأمن يعيق التنمية.
يبدو في مقاربة لوضعية التداخل التشابكي السلبي بين التنمية والأمن أ ن انعدام أمن الإنسان ينجم عن تهديدات جسيمة متواترة ومتنامية ومستجدة وشديدة التأثير المركب الذي يزيد بمتوالية هندسية (على رأي مالتوس في تفسير المشكلة الديموغرافية) ويمس غالبية الناس ، وهنا يؤكد تقرير التنمية البشرية العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (19:2009) " على أن انعدام أمن الإنسان المتفشي في المنطقة العربية يقوّض التنمية البشرية ويوقف استدامتها دون هوادة وهو بهذا يهدد سبل العيش والدخل والغذاء والمأوى والعمل . وهو متأصل في المحنة التي تواجهها دول عربية عديدة " .
وفي ليبيا أدت هذه المعطيات المهددة للأمن والسلم الاجتماعي إلى مهددات خطيرة وجادة لحياة الإنسان ونشاطه وعلاقاته وأمنه بالجملة ، وسيادة الخلافات والنزاعات القبلية التي أحيت جذور نزاعات قديمة شهدها تاريخ ليبيا القديم والحديث . الأمر الذي جعل ليبيا كلها في وضع بائس أشبه بما عرض فيكتور هيجو في كتابه البؤساء وأصبح للعنف تداعيات تفاعلية تعيد إنتاج العنف وتطور من أساليبه وآلياته وتمزق إلى حد كبير النسيج الاجتماعي الناظم لليبيا الدولة : ليبيا الوطن . وهو ما يجعلها في وضع يبدد الآمال ويعطل روح المبادرة ويعيق التنمية والنشاط الاقتصادي السوي وتعم الأزمة كل مظاهر الحية وتتقلص الفرص أمام إمكانية الحل السلمي التوافقي الذي هو شرط أساس للتنمية البشرية واستدامتها.
أمن الإنسان الليبي إذاً هو أساس التنمية وشرط لها ، فالمواطنون الليبيون الذين يشعرون بالأمان ويتحررون من الخوف وعدم الاطمئنان هم أكثر إمكانية وقابلية للمشاركة الفاعلة في إعادة بناء الدولة ورأب الصدع وتجاوز حالة الفشل والانهيار التي تواجهها الدولة خاصة مع تنوع مفاهيم ومجالات الأمن لتربط بالأمن الاقتصادي والمعيشي والأمن الصحي والبيئي والشخصي : (( أمن الأموال والأرواح والممتلكات ، والسياسي والاجتماعي والثقافي والعرقي والطائفي )) .
نحو تحديد الاتجاه التنموي
وفقاً لرؤية تقرير التنمية الإنسانية العربية (22:2009) يتجه أمن الإنسان في ليبيا وغيرها نحو تمكين الإنسان وبناء قدراته ورفع مستويات طموحاته وآماله وثقته في نفسه والقادر على احتواء المخاطر التي تهدد معيشته وكرامته وتضرب عرض الحائط بحقوقه . وتأتي التنمية هنا لتشمل تحقيق مختلف التطلعات في ظروف وأوضاع داعمة ومشجعة وضامنة ، وهنا يكمل مفهوما التنمية والأمن بعضهما الآخر ويلتقيان ويتشابكان في تقاطعات بين البؤس واليأس البشري وبين الأمل والتطلعات الواعدة والأكثر استيعاباً لمستجدات وتهديدات عصر العولمة والمعرفة الرقمية وتوظيف مقتنياتها وتقنياتها في تمديد منظومة الأمن والسلم الاجتماعي.
أمن الإنسان في ليبيا هو أمن الوطن بكامله وطن يواجه تأزماً حقيقياً في كل النظم والمنظومات الأساسية للدولة ومؤسساتها ومسؤولياتها وسيادة القانون . وفي هذا يؤكد التقرير الدولي للتنمية البشرية العربية (2009 : 22- 23) على أن "أمن الإنسان هو شرط أساسي لتفعيل التنمية البشرية وتحقيق أهدافها واستدامتها " ، وذلك لأن الخيارات والفرص والتوجهات المتاحة للناس لا تتسع وتنشط ما لم يكن الناس في ليبيا وغيرها كفي وضع تمكيني وفي أمن واستقرار يضمن حياتهم وممتلكاتهم ودخلهم وحرياتهم لتكون التنمية ارتقاءً بمستوى تعليم الناس تعليماً راقياً وذكياً ومتطوراً ومستجيباً لأحدث مستجدات العولمة والمعرفة الرقمية ، ولتكون أيضاً فرصاً للعمل وزيادة الدخل والنشاط الاقتصادي كما تؤطره النظم الاقتصادية المعرفية (Knowledge economy) اقتصاد المعرفة ، ومن هنا فإن أمن الإنسان والتنمية مترابطان كل الترابط ويدعم أحدهما الآخر.
مع تأكيد دعم التوجه نحو بناء مقومات المواطنة والوحدة الوطنية والقطيعة مع كل ما يدفع باتجاه النزاعات المحلية والطائفية وانتشار السلاح حتى يكون أمن الإنسان وأمن الوطن مؤطراً لكل تنمية بشرية .
أ.د . عبدالسلام بشير الدويبي
الخبير الاستشاري للتعليم والتعاون الدولي بالمجلس الرئاسي في ليبيا
- اكتب تعليق
- تعليق