في المساواة في الميراث بين الجنسين وزواج المسلمة بغير المسلم : البيان الثالث
بعد اطّلاعنا على محتوى البيانين الصادرين تباعا عن السيد عباس شومان وكيل الأزهر المصري ثم عن السادة علماء وشيوخ جامعة الزيتونة بتاريخ 19 أوت 2017 بخصوص مبادرة الرئيس التونسي بالنظر في موضوع المساواة بين الجنسين في الميراث وإلغاء المنشور عدد 73 المتعلق بمنع زواج المسلمة بغير المسلم نتقدم في هذا الإطار بالملاحظات التالية:
أوّلا - نعتبر أنّ لا فرق بين البيانين المشار إليهما أعلاه وأنّهما في تعاملهما مع النص القراني يشتركان في مرجعية واحدة، هي المنظومة الفقهية الأصولية التقليدية. فهما يعيدان إنتاج تلك المنظومة حرفيا مع التبني الكامل لنظرتها إلى النص الديني ومنهجها في تحديد مجال الاجتهاد دون أية محاولة نقدية لتلك المنظومة ودون الاعتراف حتى بما طرأ عليها من تعديلات عبر مسيرتها التاريخية الطويلة وهو من الأمور التي نستغربها لاسيّما من قبل علماء وشيوخ الزيتونة، تلك المؤسسة الدينية العريقة في مجال الاجتهاد والتي خطت به خطوات إلى الأمام وعملت على تطويره وتجديده في عدة مناسبات ومراحل من تاريخها ولذلك نستغرب ممّن يمثلّها اليوم كيف يعود أدراجه القهقرى ويتراجع عن مكاسب تلك المسيرة التي تميز بها الفكر التونسي والمغاربي بصفة عامة عن توجهات الفكر الديني في مناطق أخرى من العالم الإسلامي. وليس أقل غرابة من ذلك موقف دار الإفتاء التونسية المتذبب بين الموقف الأصولي التقليدي والرؤية الاجتهادية التونسية الحديثة ممّا يدل على وجود مخاض لم يستقر بعد بين قراءتين للنص الديني وأنّ الحدود بينهما لم يتم إرساؤها بصورة نهائية ممّا يسمح للبعض بالمراوحة بين الموقفين وبالمدّ والجزر حسب الظرف والحاجة.
ثانيا - نعتبر أنّ القاعدة الأصولية التي مفادها أنّ «لا اجتهاد مع النص» هي قاعدة قابلة للنقد والمراجعة لاسيّما أنّ الممارسات الاجتهادية السابقة تاريخيا لنشأة المنظومة الأصولية واللاحقة أيضا قد تجاوزتها في أكثر من مناسبة فعديدة هي الأحكام التي اعتبرت من وجهة نظر أصولية من المحكمات والثوابت والقطعيات ومع ذلك وقع الاجتهاد فيها دون أن ينظر إلى ذلك على أنّ فيه مساسا بجوهر الدين. فاذا لم نجتهد في النص ففيم نجتهد إذن؟ ثم كيف يدعو القرآن إلى تدبّر آياته ثم نمنع الاجتهاد فيها على أساس أنّها من القطعيات المحكمات التي لا مجال لتدبّرها عقليا؟
ثالثا - إنّ تأسيس مفهوم «النصية» ومبدأ «قطعية الدلالة» على مجرد وضوح المعنى اللغوي للنص هو تعامل حرفي مع الخطاب الشرعي وقد بينت علوم النص الحديثة أنّ مسالة الدلالة ليست خاضعة للظوابط اللغوية فقط بل توجد دلالات أخرى للنص الواحد من بينها على سبيل الذكر لا الحصر الدلالة السياقية لبنية الخطاب والدلالة التاريخية المتصلة بظروف التنزيل وبمطابقة المقال للمقام ومن بينها أيضا الدلالة المقاصدية التي تتنزّل ضمنها البيانات والأحكام التفصيلية، فضلا عن الموقع الثقافي لقارئ النص عبر الزمان والمكان وغير ذلك من الدلالات التي ينبغي تضافرها لمقاربة النص وتحقيق الفهم. لكن المنظومة الأصولية في محاولتها تقنين الفهم لم تراع تلك الدلالات ولم تستحضر المقاصد الشرعية بقدر ما راعت الدلالة الحرفية للآيات التفصيلية في الوقت الذي كان من الضروري النظر فيه إلى الخطاب الشرعي من جميع جوانبه واستكناه معنى النص القراني في شموله ومراعاة الكليات في صلتها بالجزئيات ضمن رؤية متكاملة لروح الرسالة في عمومها.
رابعا - من الواضح في قضية الحال أنّ المجتهد إذا ما راعى كل تلك الضوابط الدلالية المشار إليها آنفا أدرك بما لا يدع مجالا للشك أنّ هدف الشارع هو التشوّف إلى تحقيق المساواة باعتباره مقصدا أساسيا من مقاصد الشرع وأنّ الحكم الشرعي المنصوص عليه في الآية 11 من سورة النساء هو إجراء جزئي لإنجاز درجة في اتّجاه تحقيق تلك المساواة وفق ما كانت تتيحه ظروف عصر التنزيل الاجتماعية التي كانت المرأة تُحرم فيها من الميراث بل كانت تورث كسائر الأمتعة ناهيك أنّ الصحابة أنفسهم لم يتقبل بعضهم ذلك الإجراء بسهولة. فنزول آية الميراث حدث في سياق إنصاف المراة بالوسائل المتاحة إذّاك وعلى اعتبار أنٰه الحد الأدنى الذي لا يبيح الشارع النزول دونه لأنّه فريضة من الله على من كانوا يحرمون الأنثى من الإرث بإطلاق.
خامسا - إنّ الشارع قد راعى الظروف الاجتماعية للمرأة زمن التنزيل لكن الفكر الأصولي بمنهجه في قراءة النص وتقنينه للفهم قد عمل على تكريس الوضع الاجتماعي المحايث لعملية التنزيل ولم يراع تطور الأوضاع الاجتماعية وتغير العلاقات والمسؤوليات بين الجنسين وهو ما نشهده اليوم بشكل ملموس في نطاق الأسرة والمجتمع .إنّ الحكم الشرعي «للذكر مثل حظّ الأنثيين» مرتبط حتما بمسالة «الولاية والقوامة، وقد اعتبر الأصوليون أنفسهم أنّ من أهمّ الضوابط المحددة للميراث ضابط المسؤولية، أي مسؤولية الإنفاق فهل هذه المسؤولية التي نعتبـرها منــــوطة بعهـدة الرجل فقط هي اليوم كذلك عمليا؟ وهل المراة اليوم معفـــاة من أعبـــاء تلك المسؤولية؟ أليس من العدل أن يرتقي نصيبها من الميراث إلى مستوى حظّها المتنامي من تلك المسؤولية؟
سادسا - ولا يختلف أمر المساواة في الميراث عن قضية حقّ المسلمة في الزواج بغير المسلم لأنها تتعلق أيضا بمسالة المساواة مع الرجل من ناحية، وبمسالة تطور البنى الاجتماعية من ناحية اخرى. فالتمييز هنا في الفقه الإسلامي ينبني على مبدإ الولاية، أي ولاية الزوج على زوجته وهي ولاية لا تجوز لرجل غير مسلم على إمراة مسلمة بينما هي ولاية جائزة لرجل مسلم على إمراة غير مسلمة بناء على أنّه لا ولاية لغير مسلم على مسلم وعلى أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ولا جدال في أنّ هذا الأمر يثير مسألة المساواة بين الجنسين من جديد وإذا ماكانت المساواة في الميراث تستدعي مراجعة النظر في مبدإ القوامة فإنّ زواج المسلمة بغير المسلم يستوجب النظر في مبدإ الولاية سعيا إلى تحقيق التساوي في المسؤوليات مقابل المساواة في الحقوق. هذا بالاضافة إلى أنّ العلاقات الاجتماعية في عالم اليوم شعوبا وأوطانا لم تعد قائمة كما كان شأنها في الماضي على اعتبارات دينية فالبنى الاجتماعية المعاصرة لا تنبني على أسس عقائدية وإنّما تنبني على مفهوم المواطنة فتفصل بين الدين والدولة وتستعيض عن سيادة الأديان بسيادة الأوطان وحقوق الإنسان.
سابعا - من واجب المجتهد اليوم أن يستحضر كل ذلك في إطار مقاربة جديدة للخطاب القرآني تحاول أن تنظر في ثوابته ومتغيراته بأسلوب جديد يحفظ للمسلم المعاصر إيمانه ويمكّنه في الآن نفسه من أن يواكب التطور وأن يساهم فيه باجتهاده الفكري.
إنّ الفكر الإسلامي في أشدّ الحاجة اليوم إلى إعادة النظر في مقاييس «الثبات» و«التغير» في النص الديني لأنّ المقاييس التي ضبطها الأصوليون للتمييز بين «الثوابت» و «المتغيرات» لم تعد تفي بالحاجة لأنّها تعاملت مع النص الديني تعاملا شكلانيا واختزلت مفهومي الثبات والتغير في الدلالة الحرفية فضيّقت من مجال الاجتهاد الذي يحتل مكانة مركزية في النص القرآني، بينما يخضع المفهومان لمقتضيات الزمان والمكان فالأصل في التمييز أن يُنظر فيما هو مطلق وما هو نسبي وفق تغير الأوضاع. والثوابت الحقيقية هي القادرة على مطاولة الزمن وعلى مواكبة التطور. فالإشكال لا يتعلق بالنص القراني في حد ذاته بل بأسلوب مقاربته ومنهجية التعامل معه وكيفية قراءته وفهمه وهي مسائل اجتهادية وغير مقدّسة يمكن إعادة النظر فيها لتطوير المنظومة الاجتهادية وتأهيلها لتوظيـف النص لمعالجة قضايا العصر.
توفيق بن عامر
اقرأ المزيد:
احميده النيفر: الإرث وأسئلة الزمن المُتَوَقِّف
- اكتب تعليق
- تعليق